فكلّ ما تحرّر من أسر الظلمات، وحلّ ضيفاً على واقع الضياء، فهو بادٍ. الإبداء قرين بَيدٍ، كما هو رديف بداية. ففي البدء كان البادية. والبادية بائدةٌ أيضاً. أي مكانٌ بادَ وخلا. أي أنه عَبَرَ البرزخ، وخاض تجربة فناء. فما لا يبيد، لا فرصة لأن يتبدّى. لا فرصة لأن يبعث نفسه، من منفاه، حيّاً. فالبذرة لا تحيا إن لم تمت، حسب وصيّة القدّيس. البذرة عنقاء لا تبعث نفسها من عدم، ما لم تعش مراسم وفاتها، ما لم تعبر محال دفن! البيداء أيضاً ارتضت أن تبيد، كي تهنأ ببعثها، كي تهنأ بميلادها الثاني، لأنه جواز المرور الوحيد لدخول ملكوت الله. فالبادية كانت وجوداً كامناً. كانت وجوداً مخفيّاً. كانت غنيمة نسيان. فإذا بها تتبوّأ منزلة بعثٍ استوت في: البيّنة! البيّنة، كانت منذ الأزل، قياساً. كانت الحجّة، بدليل أننا لا نحتكم إلّا إلى ساحتها، كلّما راقنا أن نحسم جدلاً، فنتساءل: «أين البيّنة؟». فالبادية بيّنةٌ، أي شهادةٌ لتسويق حقيقة جليّة. لأن الحقيقة أيضاً بادية. الحقيقة أيضاً عارية. وأن تكون بادية، أو عارية، يعني أنها بسيطة. ولم تصبح البساطة لها رديفاً، في أدبيّاتنا، إلا بسبب هذه الطبيعة الكامنة، القادرة على الحضور في حرف الوضوح، في حرف التبدّي. وأن تكون البادية باديةً، أن تكون عارية، لا يعني أنها حجّة رؤية. لا يعني أنها موضوع رؤية، ولكنّها، بنعمة التبدّي، حضورٌ في الرؤيا. برهان رؤيا. شهادة رؤيا. بل شهادة رؤى. رؤى بالضرورة غيبيّة، أي ما نسمّيه في لغاتنا المكتسبة نبوآت. ولذا كانت البادية مسرح نبوءة منذ الأزل. لماذا؟ ببساطة لأنها تجربة تحرير. مغامرة تغيير. التغيير الذي لا يتحقق بدون خوض معركة تحرير. تحرير ما بالنفس، وليس تحرير ما بالعالم. تحرير ما بالنفس عملٌ مقدّس، ولذا فهو الجدير بلقب البطولة، إذا ما قورن بتحرير ما بالعالم، المسكون بطينة الخطيئة.

لماذا صارت محاولة تغيير ما بالعالم مغامرة خطرة؟ لماذا صار الشغف بتغيير ما بالعالم موسوماً باللعنة؟

لأن الشروع بتغيير ما بالعالم تدخّلٌ سافر في شأن القدر. تدخّل في شأن ذلك القدر الذي صرّح إله معبد دلفى بأن الآلهة نفسها لا سلطان لها عليه؛ لأن ما هو القدر إن لم يكن الناموس المخوّل بإدارة شئون الواقع الدنيوي، بالإنابة عن مشيئة الألوهة، لأنه لم يكن سوى طبيعة مجبولة بروح الألوهة أصلاً. والويل ثم الويل لمن سوّلت له نفسه أن يتدخل في ترسيمة هذا النظام الغيبيّ، المرسوم مسبقاً، المعني بالتغيير في بعده الباطني، الطبيعي، المستنكر لأي تدخل خارجي.
والبرهان؟

البرهان هو الدرس الذي لقنته لنا الأقدار في مصير تلك المغامرات الطائشة، التي اخترعنا لها اسم الثورات. فالثورات تجربة رهينة الفشل، لأنها عدوان سافر على صلاحيات غيبيّة، وليست دنيوية، لم نُخلق لها، ولم تكن من صلاحياتنا. ولذا نلاحظ أن القطب الوحيد المعني بهذا التجديف هو القطب الحضري، هو القطب المحشور في جحور العمران، المعادي بطبعه لأعظم هبة وجودية: الحرية.

بالمقابل برهنت سيرة البادية على تغيير من جنس مختلف. تغيير منزّه عن التجديف في حق إملاءات القدر، لأنه احترف ثورة من طينة أخرى، ثورة محبوكة بمشيئة الروح، تتخذ من تأمّل ما بالنفس حجّة في ملحمة التغيير، تغيير قابل لأن يحقق معجزة التحرير، تحرير هو حرف أول في معجم النبوّة، النبوة التي أخذت على عاتقها أن تأتي للعالمين بالخلاص؛ لسبب بسيط وهو أن من استطاع أن يستوعب الرؤيا وحده يستطيع أن يتغير، وأن يتغير يعني أنه يتحرر، ومن تحرر فقط يستطيع ان يغير. يستطيع أن يُحرر.

والنبوءة حركة تحرير. النبوءة ثورة تغيير. ثورة تبدأ بتغيير ما بالأرومة، ما بالطينة، ما بالنواة، لتنتهي بتغيير حرف الواقع، حرف العالم، لتنتهي بتغيير صميم الواقع. ولهذا السبب انتصرت كل النبوآت، في حين أخفقت كل الثورات.

والفضل؟

الفضل يرجع لعبقرّية البادية:

النبوّة ـ تميمة الإنسان البرّي.

الثورة ـ أفيون الإنسان الحضري.

وفي صياغة أخرى نستطيع أن نقول:

النبوّة ـ ثورة الانسان البرّي.

الثورة ـ نبوّة الإنسان الحضري.

في ثورة النبوة يسكن الخلاص، لأنها غنيمة الروح.

في نبوة الثورة يسكن القصاص، لأنها غنيمة الحرف، المجبول بباطل الأباطيل.

هامش 1

الموقف من الحرية هو ما لعب دور البطولة في تحديد طبيعة العلاقة بين قطبي الجنس البشري (البرّي والحضري)، ليختمه ببصمة عداء مبين ببعد تاريخي، شطر الفريقين إلى هويّتين، كأنهما ملفّقتين من طينتن مختلفتين، ممّا دعا القدّيس أوغسطين لأن يخلع لقب «القبيلة الدنيوية» على الفريق الحضري، ولقب «القبيلة الإلهيّة» على الفريق البرّي. ولكن تلك السيرة رهينة معالجة أخرى.

هامش 2

العقل اليوناني الكلاسيكي يطرح كل مبدأ تحرّر من اغترابه في حرف الواقع، ثمّ تبدّى، كبرهان على وجود الحقيقة. فـ aletheia في اليونانية القديمة، اصطلاحٌ دالّ على مفهوم كل مبدأ حقيقي. فالكشف، أو الاستظهار، وليس الاستضمار، هو الجدير بأن نعتمده كحجّة في شأن الحقيقة. وهو ما يعني أن الرقعة الطبيعية، التي ارتضت لنفسها مصيراً درامياً، كالحضور في واقع عدميّ، وحدها تعتنق دين الحقيقة. والبادية كشفٌ مطلق. البادية عريّ فجيع، ولذا فهي ليست مجرد بادية، ولكنها بائدة. ليست مجرد بائدة، ولكنها بيداء. أي أنها تُبيد أيضاً، أي أنها قادرة على أن تستعير هوية الفاعل إلى جانب هوية المفعول. وهو ما يعني أنها تسكن، في الواقع، البعد الضائع في الوجود. أي أنها تقيم في اللّا واقع، في اللا وجود. تسكن في صميم ما ننعته باسم العدم. ولم تكن لتنال شرف الانتماء إلى جناب الحقيقة لو لم تتنكّب الصليب، لتعبر البرزخ، فتستقرّ في البعد المفقود. لأن وجودها في رحاب الحقيقة، بطولة رهينة قبول بالحضور في البعد المفقود. وطبيعي أن تغدو وطن الرؤى السماوية، المسكون بالمبدأ الذي يجود على عالم الأسافل بالنبوّة.

فالحضور في البعد المفقود حضورٌ في الحرية: والبادية، كوطن حرية، مستودع حقيقة، وبالتالي، ترجمان نبوّة.

فلا مفرّ، في عالمٍ مفلس ومدنّس كعالمنا، من الاحتكام إلى ساحة باديةٍ. بادية هي وحدها حاضنة لذلك الخلاص، الذي لا وجود له خارج حرية الأبعاد القصوى.

هامش 3

يتباهى الإنسان الحضري، في حضرة الإنسان البرّي، بانتمائه إلى هوية الحضارة، لأنها تغتنم حجّة مهيبة كالثقافة، وينسى هذا القطب أن البرهان هنا ليس في حرف هذه الثقافة، ولكن في ذخيرة القيم التي تسكن هذه الثقافة، كأنّ النبوّة ليست الذروة في سيرة هذه الثقافة! يستطيع هذا النموذج أن يحاجج، على نحوٍ مّا، بعبقريّته في استنطاق أّمٌّ هي الطبيعة، ولكن هل يجرؤ أن يعترف لنفسه بحقيقة هذا الاستنطاق، لمجرد أنه استطاع أن يحقق به ما نسمّيه في معجمنا نفعاً؟ لماذا لا يعترف أيضاً بحقيقة هذا النفع، فيقول أنه ضربٌ من غَصْب، غصبٌ يرتقي إلى منزلة الإثم، ليضع بهذا الاعتراف، كل مواهبه موضع شكّ؟ فكل ثمار التقنية عمل مشفوع بالدّهاء حقاً، وربّما بالمسّ أيضاً، وربّما استجلب منافع جمّة، ولكن هل يجزم مريدها أن يعصمها من لؤم، أو يستنزل فيها شهادة براءة؟

فليس كل ما هو نافع، هو بالضرورة نبيل، لأن التجربة برهنت أن كل مساس بالطبيعة هو استباحةٌ لحرَم أُمّ، وكل المنافع الناتجة عن هذا الفعل تستصرخ دفع مكوس. فلنطرح مثالاً آخر هو التجارة: هل هذه الحرفة عملٌ أخلاقيّ؟ كلّا بالطبع. ليس لنا، كي ندرك حقيقة هذه البدعة، إلّا أن نستجير بلغة إنسان برّي الروح، استطاع أن يضع حجر الزاوية لكيان حضارة عظمى، كما الحال مع سليل «سومر»، الذي لم يتردّد في أن يستصدر حكم الإدانة في حق هذه المهنة، عندما أطلق عليها اسم "تامكرّا"، كمفهومٍ يزاوج بين التجارة والغشّ، بين التجارة والمكيدة، بين التاجر واللصّ، وهو ما يعني أنها ليست عملاً أخلاقيّاً.

فالواقع أن القطب الحضري سوف يخسر الرهان مع قرينه البرّي، إذا تعلّق الأمر بالمقياس الأخلاقي، في مجال أية مفاضلة. يكفي أن نحتكم إلى جناب المنطق، لكي نستطلع حقيقة الفريقين.

فعندما نستجير ببرهان اللغة، ننعت إنسان البادية بصفة ذات دلالة سخيّة في رطانتنا هي: البرّي. فماذا ستعني هوية الإنسان البرّي بهذا الوسام؟

كلمة برّي هنا تكفي شهادةً على حسن السيرة والسلوك، لأنها تعني: البريء (!) أي بإضافة همزة فقط.

ولكن ماذا نكتشف عندما نستجوب المعنى في اسم الحضارة، التي يحاجج بها القطب العمراني، ويتغنَّى بها كقدس أقداس؟

الحضارة استعارة من الحضور. والحضور لم يكن يوماً برهاناً على تقوى، لأن من حقّنا أن نتساءل: إذا كان الحضور قيد الوجود عملاً بطولياً، أو بالأصحّ وجوداً في رحاب فردوس، فلماذا يتباكى الإنسان في حضرته على غياب الفردوس؟ ما أدرانا عمّا إذا لم يكن حضورنا في واقع هذا الوجود هو الموت، ووجودنا في ما نحسبه موتاً هو الحياة، كما تساءل إيروبيدس يوماً؟

فالحضور الحقيقي هو الحضور في ملكوت الروح، وليس الحضور الحرفيّ في واقعٍ مشبوهٍ، مشوّهٍ بالخطيئة، ومشكوكٌ في أمره، لأنه باطل أباطيل، والدليل أنه فانٍ.