فالحادث الذي كاد ومازال يكاد يعصف بالعلاقات المغربية الإسبانية، وبقدر ارتباطه المباشر باستضافة مدريد للزعيم الانفصالي إبراهيم غالي، فإنه مرتبط أيضا بالتوتر الذي تعرفه تلك العلاقات منذ غابر قرون مضت، حيث التنافس بين المملكتين على الريادة في المتوسط، من ناحية، والتنافس بين المملكات الثلاث؛ المغربية الإسبانية، والإسبانية البريطانية، على المضايق الإيبيرية، بكل ما تمثله من ثقل في التجارة والملاحة البحريتين الدوليتين.

"كيف يمكن للمغرب في هذا السياق أن يثق بإسبانيا مرة أخرى؟ كيف يمكن أن نضمن أن إسبانيا لن تتآمر مرة أخرى مع أعداء المملكة؟ هل يمكن للمغرب حقا أن يثق بأن إسبانيا لن تتصرف من وراء ظهره؟ كيف يمكن استعادة الثقة بعد هذا الخطأ الجسيم؟ ما هي الضمانات التي يتوفر عليها المغرب إلى الآن؟ في الواقع، يتعلق الأمر بطرح السؤال الأساسي: ما الذي تريده إسبانيا فعلا؟"، شبكة من التساؤلات المترابطة والعميقة، أطلقتها قبل أيام الخارجية المغربية في بيان شديد اللهجة، قدمت من خلاله حسابا ختاميا لكل ما فعلته الرباط من أجل مصالح مدريد العليا، انطلاقا من مبادئ حسن الجوار، وهو الأمر الذي يشي أيضا بالأوراق التي يمتلكها المغرب، بقدر ما أن الحيلولة دون حدوث خطر ما، قد لا يحتاج سوى انهيار الثقة للتغاضي عن مروره، أو عدم الاكتراث له مطلقا.

غير أن التراكم الذي أدى إلى هذه الأزمة، قد بدأ منذ أن اقدم المغرب على تنظيف معبر الكركارات من مرتزقة البوليساريو، نهاية العام الماضي، هناك حيث راهنت الجبهة الانفصالية ومن يقف وراءها على تغيير الوقائع الجيوسياسية، والتأسيس لكانتون يمتد من تندوف إلى المحيط الأطلسي، وتتم عبره السيطرة على المعابر البرية والبحرية الأساسية الرابطة بين أوروبا وإفريقيا، وهو الأمر الذي أفشله الجيش المغربي، لتتلاحق بعد ذلك الأحداث وصولا إلى الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء، والذي قلب موازين المنطقة، وأسفر عن ميزان قوى جديد، قوامه تحالف يربط بين ضفتي الأطلسي، تشكل رأس الرمح فيه المملكة المغربية، وهو ما كانت بريطانيا قد استجابت له سريعا، عبر تقوية ورابطها الاقتصادية مع المغرب، تزامنا مع انسحابها من الاتحاد الأوروبي.

ثمة إذن مياه كثيرة جرت في النهر الأوروبي، الذي تطاله نيران التفكك، وقواه الأساسية ممثلة في ألمانيا وإسبانيا تراقب الصعود المتسارع للمغرب كقوة إقليمية، تطور تحالفاتها داخل الأطر الثنائية، في جميع قارات العالم، وتكسب المزيد من الثقة لدى الحلف الدولي النيو-تقليدي ممثلا في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فلا غرابة أن تتجه كل من ألمانيا وإسبانيا صوب تنغيص فرحة المغرب، تارة بمشاكسة الاعتراف الأمريكي التاريخي، وتارة أخرى بنسج المزيد من الخيوط مع أعداء الوحدة الترابية المغربية، على نحو ليس فيه أدنى اختبار للقوة، بقدر ما فيه نوع من المشاغبة الصبيانية فقط.

وهكذا ذهبت الأمور إلى حافة الهاوية مع ألمانيا وإسبانيا، على التوالي، حيث أن الرباط وكما هو معروف عنها في الأوساط السياسية العالمية وعبر عقود طويلة، لا تقبل أي ضغط أو ابتزاز، فيما راهن خصوم المغرب على توجيه دفة الأمور من برلين ومدريد، بسبب العامل الجيوسياسي المشار إليه آنفا من ناحية، ثم بسبب العمى الاستراتيجي الذي أصيبت به حكومتا البلدين، من ناحية ثانية، وخصوصا حكومة التكنوقراط الإسبان، الذين تورطوا في الأزمة بسبب سوء تقدير لإمكانيات المغرب الاستخباراتية التي كشفت سريعا تهريب غالي إلى مدريد بهوية مزورة، وكذا قدراته السياسية والدبلوماسية التي يمكن أن تبلغ سقوفا غير متوقعة، ما انتهى بصعود مدريد شجرة الأزمة، ومواجهتها ضغطا غير مسبوق من الداخل والخارج.

فلا شك إذن أن الأمر يتعلق هنا بامتحان سياسي واستراتيجي كبير، لخصوم المغرب، وكذا للإسبان، وإلى حد ما الألمان، امتحان أبان عن انحدار مستوى السياسية وحفظ العلاقات الودية بين الأمم لذى تلك الضفة، وأكد بالملموس ثبات وصلابة الحلف الذي انتسجت خيوطه حول ريادة ونضج المغرب، بوصفه قوة إقليمية جعلت الاتحاد الأوروبي بأكمله يقف على قدم وساق، وبقدر ما نجحت في إبعاد موضوع الهجرة عن أي استعمال جيوسياسي، بقدر ما أبانت عن سلوك سياسي ملؤه الحكمة والأنفة والتمسك بالحقوق، وإرغام الخصوم على سلوك مسلك الإحراج والارتباك.

وإذا كان التفتيش عن الشامتين الذين انقلب عليهم كل شيء، يؤكد أن امتلاك مشفى صالح لمعالجة غالي كان بإمكانه تجنيب المنطقة هذا التوتر، فإن ضفة الصامتين تحمل الكثير من القُطَب المخفية في الموضوع، ذلك أن أهم نتيجة لكل ما حدث هي التأكيد بما لا يدع مجالا للشك على التحول الذي ينتظره المحيط الأطلسي والعمق الإفريقي، في آن معا، حيث ستتلاقى القوة البحرية بالاتصال القاري، وهو التحول الذي يشكل قطب الرحى فيه المغرب، ولهذا السبب فإن بايدن قد راجع أشياء كثيرة من عهد ترامب، لكنه لم ولن يقترب من التحالف الأميركي المغرب الإفريقي.