انتقائيون هم الإخوان في القضايا "الوطنية والقومية" التي يدعون مناصرتها بل ويقدمون أنفسهم باعتبارهم "الوكيل الوحيد والحصري لها".
فبينما هم يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويستخدمونها كذريعة للتشنيع بالدول العربية التي يناصبونها العداء ولمحاولة حشد وتوجيه الجماهير لما فيه المصالح السياسية للجماعة الإرهابية، فإنهم على العكس من ذلك يتعاملون بتجاهل تام مع قضية الأراضي السورية التي تحتلها الدولة التركية ..
بلى.. فثمة حقيقة تاريخية تقول أن جنوبي تركيا الحالية هو في حقيقة الأمر ينتمي تاريخيًا لسوريا.
فالمطالع لكتب التاريخ يدرك ذلك بسهولة شديدة، ولا أتحدث هنا عن التاريخ المعاصر (بعد العام 1900م) ولا ذلك الوسيط (بين القرنين الميلاديين الخامس والخامس عشر) وإنما ابتداءً من التاريخ القديم نفسه!
فلطالما كانت تلك المنطقة مسرحًا للعمليات الحربية بين الدولة المصرية القديمة-خاصة في عهد الملك تحتمس الثالث-ومنافسيها في مد النفوذ على بلاد الشام.. وطوال فترة الاحتلال الروماني ثم البيزنطي ثم الفتوحات العربية الإسلامية كانت تلك المنطقة تابعة للشام.. ففي عهد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان انتقلت إلى إقليم الجزيرة الفراتية-الموزع حاليًا بين كل من دول العراق وسوريا وتركيا-بعض القبائل العربية، فعُرِفَت بأسماءها: ديار بكر، ديار ربيعة، وديار مضر.. بل ووصف بعض المؤرخين والجغرافيين لغة أهلها بأنها "أصح العربية وأكثرها بلاغة"، أي أن هذا الإقليم ينتمي للبلدين العربيين العراق وسوريا بالأصالة بينما يعد الأتراك دخلاء عليه..
وإن قيل: "تلك عهود مضت عليها قرون" فإن الأمر يختلف بالنسبة للواء الإسكندرونة السوري المحتل
ففي العام 333 ق.م. وضع الإسكندر الأكبر المقدوني أساس هذه المدينة لتكون منفذًا بحريًا لشمالي الشام-خاصة حلب-واستمر وضعها كذلك خلال عهد خلفاءه السلوقيون ثم الاحتلالين الروماني فالبيزنطي
وبعد الفتح العربي للشام، وطوال عصر الحضارة العربية الإسلامية كان لواء الإسكندرونة يتبع إداريًا بلاد الشام والدول الإسلامية القائمة فيه كدول الزنكيين والأيوبيين والمماليك، وخاصة هؤلاء الأخارى، فقد كانت سلطنة المماليك تنقسم إلى الديار المصرية والديار الشامية، وكان ما يُعرَف بالجنوب الحالي للدولة التركية تابعًا لولاية حلب أو "الديار الحلبية" الواقعة شمالي الديار الشامية من السلطنة، والذي طالما حاول العثمانيون غزوه وإثارة الاضطرابات والفتن فيه والتي ردعهم عنها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي.. ولكن ضعف خلفاء قايتباي أدى في النهاية لسقوط دولة المماليك واجتياح المحتل العثماني للشام ثم مصر..
وخلال عصر الاحتلال العثماني للشام كان لواء الإسكندرونة تابعًا ل"سنجق حلب" أي أنه باعتراف العثمانيين كان يقع في نطاق سوريا..
واستمر ذلك الوضع حتى دخول الدولة العثمانية في مرحلة الانهيار الأخير واجتماع القوى الاستعمارية الأوروبية على تقاسم تركة "رجل أوروبا المريض" فوقعت سوريا تحت الاحتلال الفرنسي والذي استمر على اعتبار الإسكندرونة منطقة سورية
وفي بداية الاحتلال الفرنسي لسوريا-وتحديدًا في مطلع عشرينيات القرن العشرين-سعى المحتل الفرنسي لتقسيم وحدة سوريا التاريخية لدويلات هي اللاذقية ودمشق وجبل الدروز وحلب، وفصلوا سنجق الإسكندرونة وجعلوه اسميًا تابعًا لدويلة حلب ولكن مع احتفاظه بحكمًا ذاتيًا-وفقًا لمعاهدة أبرمها المحتل الفرنسي سنة 1921م مع الدولة التركية-وتعهد الفرنسيون بمساعدة الجانب التركي في نشر اللغة التركية وجعلها لغة رسمية للإسكندرونة.. وكانت ذريعتهم لذلك مراعاة "الوضع الخاص" للإقليم متعدد الإثنيات والأديان.. ولكن كان السبب الحقيقي هو الرغبة في "حبس" سوريا عن منفذها البحرمتوسطي التاريخي
وفي العام 1925م ألغى الفرنسيون النظام السابق وشكلوا "الدولة السورية الموحدة" وعاصمتها دمشق، والتي تبعها لواء الإسكندرونة..
وفي العام 1936م اعترضت تركيا على مشروع استقلال سوريا، من منطلق أنه سيخل باتفاق فرنسا معها على وجود وضع خاص للواء الإسكندرونة، فتم إرضاء الأتراك بجعل لواء الإسكندرونة متمعًا بحكمًا ذاتيًا، مع جعل اللغة التركية لغته الرسمية..
ومع صعود نجم النازية في ألمانيا، وشعور الفرنسيين بالتهديد ورغبتهم في اجتذاب تركيا لحلفهم ضد النازيين، أبرمت كلا من فرنسا وتركيا اتفاقية صداقة سنة 1938م في أنطاكية، قضت باحتلال الدولتان للإسكندرونة احتلالًا مشتركًا تم تنفيذه بالفعل بالقوة العسكرية في يوليو من نفس العام، وأقيمت انتخابات داخلية هزلية لإدارة الإقليم تدخل فيها المحتلان الفرنسي والتركي لخلق أغلبية تركية في مجلس حكم اللواء، وانتخاب رئيس تركي له سارع بنقل عاصمة اللواء من مدينة إسكندرون ذات الأغلبية العربية إلى مدينة أنطاكية ذات الأغلبية التركية لإكمال عملية تتريك اللواء والتي تمت نهائيًا بتنازل فرنسا عنه لتركيا في العام 1939م لتعتبره تركيا جزءًا من الجمهورية التركية..
لدينا إذن إقليمًا عربيًا احتلته دولة أوروبية، وفصلته عن انتماءه التاريخي، ثم سلمته سلطة الاحتلال لدولة غير عربية لقاء مصالح سياسية في حرب لا ناقة للعرب فيها ولا جمل.. أي أن من لا يملك قد منح ما لا يملك لمن لا يستحق... أفلا يثير هذا حمية أى عربي غيور على أراضي أمته؟ لماذا إذن لا يتناول الإخوان تلك القضية الهامة؟
إن برروا موقفهم هذا بأن لواء الإسكندرونة قد دخل في السيادة التركية بموجب اتفاقية أقول لهم: منذ متى تعترفون باتفاقيات تبرمها سلطة احتلال؟ وإن برروه "دينيًا" بأن تركيا دولة إسلامية أقول لهم: ألستم تدينون نظام أتاتورك بأنه نظام علماني غير إسلامي؟ وإن قالوا بأن تلك اتفاقيات قديمة مضت عهودها أقول لهم: ألا تصفون حدود بلاد العرب بأنها نتاج فترة الاستعمار؟ ماذا إذن عن "الحق التاريخي" و"الحدود تراب" وما إلى ذلك من أقوالكم "الأيقونية"؟ إنني هنا لا أرد عليكم سوى بحججكم وأقوالكم، فما هو جوابكم؟
الإجابة هي: النفاق الإخواني للنظام التركي الأردوغاني الذي يعيشون في كنفه وتحت رعايته.. والانتقائية الإخوانية للقضايا التي تخدم فقد مخططاتهم وأهدافهم... والتي تجعلهم يغضون البصر عن العدوان التركي على أقطار عربية مثل سوريا والعراق وليبيا-بل وإنهم يهللون له ويباركونه-بينما هم يدعون أنهم هم المناضلون لأجل الحق العربي في الأراضي المحتلة!
وللحديث بقية
-يتبع-