فبعد أن كانت الرحلات الفضائية حكرا على الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في القرن الماضي، انطلقت في السنوات الأخيرة العديد من المركبات الفضائية من دول متعددة لسبر الفضاء والتعرف على مجاهيله الكثيرة، التي لم نعرف عنها إلا القليل.

وحتى الآن، كل شيء طبيعي، فالسعي نحو فك ألغاز الكون حق مشروع لكل دولة قادرة، على ذلك، علميا وتقنيا وماليا، وكانت دولة الامارات أول دولة عربية تتمكن من دخول هذا المجال، ونجحت في إطلاق سفينتها الفضائية (مسبار الأمل) من مركز تانيغاشيما الياباني، متوجهة إلى المريخ، وبذلك تنضم الامارات إلى الدول الساعية لسبر أسرار الكوكب الأحمر.

لكن دولا أخرى، خصوصا تلك التي يشتد التنافس الاقتصادي والعسكري بينها على سطح الأرض، تضمر أهدافا ومآرب أخرى في مساعيها الفضائية، إذ لم تتسع الأرض على ما يبدو لصراعاتها وتنافساتها، فنقلتها إلى الفضاء الخارجي.

فقد أطلقت الصين سفينتها الفضائية، جورونغ، إلى المريخ الشهر الماضي، لتحط على بقعة (Utopia Planitia) أو (سهل الجنة) في المريخ يوم 15 أيار الجاري، بعد 45 عاما من هبوط مركبة الفضاء الأمريكية (فايكينغ 2) على الكوكب الأحمر عام 1976. وبذلك تكون الصين الدولة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي التي تتكلل جهودها بالنجاح في الهبوط على سطح المريخ وترسل صورا إلى الأرض من هناك.
وتخطط الصين لإطلاق المزيد من المركبات في الفضاء إلى الكواكب الأخرى، في تنافس واضح بين سلطة الفضاء الوطنية الصينية، سينسا (CNSA)، ووكالة ناسا الفضائية الامريكية (NASA).

فقد وقَّعت سينسا، الشهر الماضي اتفاقا مع نظيرتها الروسية لإنشاء "محطة أبحاث الفضاء الدولية"، (ILRS)، التي ستكون لها قاعدة على سطح القمر أو في محيطه الخارجي. ودعت سلطة سينسا الدول الأخرى إلى المشاركة في هذا المشروع العلمي، لكن هذه الدعوة لا تبدو جدية، وإلا لماذا لم تُدعَ الدول الاخرى قبل انطلاق المشروع، إن كان حقا منفتحا على باقي دول العالم؟

من الواضح أن مشروع (ILRS) هو صيني-روسي بحت، وأهدافه واضحة جدا للمتابعين، وهي تدعم توجه البلدين لمنافسة الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، أو أنه على الأقل يعبِّر عن خشية من أن ينفرد الخصوم في السيطرة على الفضاء. وقد تجلى ذلك في تصريح نائب رئيس سينسا، ووه يانهوا، بأن هذا المشروع هو "مساهمة كبرى تقدمها الصين وروسيا لتطوير الفضاء الخارجي"!

كما أعلن أحد مسؤولي أكاديمية الصين لتكنولوجيا إطلاق المركبات، مو يو، في كلمة له في مؤتمر أخير حول استكشافات الفضاء، نقلتها جريدة غلوبال نيوز الصينية، بأن الصين تطور حاليا صاروخا بقطر عشرة أمتار، قادرا على حمل خمسين طنا على الأقل من المواد والأجهزة إلى مدار القمر، لدعم بناء قاعدة على سطح القمر، كي تجري استكشافاتٍ واسعةَ النطاق.

وفي الولايات المتحدة، التي تمتلك أكبر وأقدم مؤسسة لأبحاث الفضاء، ناسا، بل هي الأكثر تطورا في العالم، أطلقت وكالة ناسا مؤخرا طائرة هليكوبتر تحوم حول المريخ، ويعتقد العلماء بأنها أكثر تطورا من المركبة الصينية.

ويقول تقرير مفوضية تابعة للكونغرس الأمريكي إن الحكومة الصينية تنظر إلى الاستكشافات الفضائية بأنها "أداة جيوسياسية ودبلوماسية تدخل في أطار التنافس مع الدول الأخرى، وأن الطموحات الوطنية والعسكرية هي التي تقود جهود الاستكشافات الفضائية". وما يؤكد هذا الرأي أن الرئيس الصيني شي جينبينغ وصف المَهَمَّة بالقول إنها "تركت بصمات الصين على المريخ لأول مرة"، أي أن المهم بالنسبة للرئيس شي هو أن تكون الصين موجودة حيثما توجد الدول العظمى.

وإذا سلمنا بأن الولايات المتحدة سباقة في استكشافات الفضاء ومتفوقة على الدول الاخرى، فإن أقرب المنافسين للصين في هذا المجال هو الهند، رغم أن الجهود الهندية ليست عسكرية، ومنفتحة على باقي دول العالم ومتعاونة معها. فقد أطلقت منظمة الأبحاث الفضائية الهندية حتى الآن 342 مركبة فضائية لـ 36 دولة.

وسوف تنطلق في سبتمبر/أيلول من العام المقبل مركبة أوروبية روسية مشتركة باسم "أكسومارز" إلى المريخ أيضا. وتتكون المركبة من جزئين، الأول حائم في الجو، واسمه "روزاليند"، قامت بتصنيعه شركة أيربص البريطانية-الفرنسية، والثاني أرضي، "كازاتشوك"، صنَّعته مؤسسة (لافوتشكين) الروسية. ويحتوي الجزآن على أجهزة مصممة للإجابة على التساؤلات العلمية حول إمكانية الحياة على المريخ. وتحمل روزاليند أداة حفر ثاقبة يمكنها اختراق سطح المريخ بعمق مترين، وهو عمق لم تتمكن الاستكشافات السابقة من بلوغه.

وبانطلاق مركبة "أكسومارز" الأوروبية الروسية العام المقبل، وهبوطها المتوقع على سطح المريخ في يونيو/حزيران عام 2023، فإن عدد الوكالات الفضائية العالمية العاملة فوق المريخ سوف يتضاعف، ما يشير إلى المحاولات الجادة والحثيثة التي تقوم بها الدول الصناعية الكبرى للسيطرة على الفضاء واستخدامه لأهدافها الارضية!

وفي الوقت الذي تحتوي فيه مركبة (جورونغ) الصينية التي هبطت قبل أيام على سطح المريخ على رادار استكشافي، قادر على تصوير باطن الأرض بحثا عن المياه في المريخ، وهو دون شك إنجاز علمي مثير للإعجاب يشير إلى مدى التطور الذي بلغته الصين، فإن المركبة الأمريكية (فايكينغ 2) كانت قد اكتشفت وجود ثلوج في باطن المريخ يمكن أن تكافئ مياهُها المياهَ التي تضمها البحيرة العظمى (لَيك سوبيريور)، وهي أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم، من حيث المساحة، وتقع في قارة أمريكا الشمالية، بين الولايات المتحدة وكندا.

الاهتمام الذي تبديه الدول الصناعية الكبرى بالفضاء الخارجي، لا يتعلق فقط بمعرفة أسرار الكون والتأكد من وجود مقومات الحياة على الكواكب الأخرى فحسب، بل تكمن وراءه أهدافٌ أخرى تتعلق بالسيطرةِ على كوكب الأرض، ومراقبةِ الخصوم وتطويرِ طرق الاتصالات فيها، وربما الحدِ من قدرات الآخرين على التطور.

لقد طورت الصين شبكة بيدو (Beidou) الفضائية للاستدلال، والتي يراد لها أن تضاهي برنامج جي بي أس (GPS) الأمريكي. كما قامت بعدة رحلات إلى القمر، وأطلقت مركباتٍ فضائيةً عديدة إلى الفضاء الخارجي عام 2018، أكثر من أي بلد آخر في العالم.

واستنادا إلى ألِكساندرا ستيكينغ، الباحثة في السياسة والأمن الفضائيين في معهد "روسي- RUSI" البريطاني، وهو أقدم معهد للأبحاث المتعلقة بالأمن والدفاع في العالم، فإن هناك منافعَ اقتصادية سوف تكسبها الصين من العمل في الفضاء، منها أن الأجهزة والمركبات الفضائية التي تطلقها الصين في الفضاء "تدعم صناعاتٍ عديدةً في الصين"، ويضاف ذلك إلى دورُها في "تعزيز قوة الصين الناعمة". إضافة إلى ذلك، فإن "الشعورَ بتحقيق النجاح في الفضاء يُترجَم عادة إلى مكانةٍ دولية مرموقة".

وتضيف ستيكينغ في تصريح لشبكة سكاي نيوز: "هناك عدد من التطبيقات العسكرية لبرنامج الصين الفضائي، فهي توسِّع من اتصالاتها ورقابتها الاستخبارية وقدراتها الرقابية في الفضاء. كما طورت عددا من القدرات لمواجهة الاخطار الفضائية المحتملة، كي تتمكن من اعتراض، أو منع، أو حتى تدمير كل ما تعتبره خطرا عليها في الفضاء، من الصواريخ المتحسِّسة المنطلقة ذاتيا، إلى الهجمات السبرانية المحتملة، إلى الإجراءات المدبرة مثل إطلاق أشعة ليزر التي تعطل آليات الكشف والتصوير للمركبات الفضائية وتصيبها بالعمى الكلي.

لقد أصبح التنافس العلمي في الفضاء أمرا واقعا، وهو بالتأكيد مشروع ومطلوب إن اقتصر على تحقيق المنافع التي يمكن الحصول عليها من جرائه، وهناك بالتأكيد منافع كثيرة، لكنه أصبح أيضا يشكل خطرا كبيرا غير محسوب العواقب على البشرية، مع احتمال تطوره إلى نزاع عسكري في الفضاء بين الدول العظمى.

وإن كانت البرامج الفضائية قد اقتصرت سابقا على استكشاف الفضاء ومعرفة أسراره وإمكانية وجود مقومات الحياة في بعض الكواكب، أو تقديم صورة عن ديناميكيات الطقس في أجواء المريخ، وهذا هو هدف مسبار الأمل الإماراتي، فقد أصبح واضحا الآن أن الجانب العسكري فيه كبير في تفكير قادة الدول الصناعية الكبرى المتنافسة، خصوصا مع تطوير إمكانيات عسكرية لشن هجمات سبرانية أو تعطيل المركبات والأجهزة والمعدات الفضائية للدول الاخرى، أو تعطيل القدرات الاتصالية للدول المنافسة، وربما شن هجمات قتالية ضدها من الكواكب الأخرى مستقبلا.

هناك جانب علمي وإنساني مهم جدا في الاستكشافات الفضائية، وهو يلبي حاجة ملحة سعى إليها الإنسان منذ القدم، لمعرفة أسرار الكون وكيفية عمله، وما هي الاحتمالات التي يمكن أن تحصل فيه مستقبلا. وهذا الجانب يمكن أن تعمل عليه الدول جميعا بجهود مشتركة، لأن ما يحصل في الفضاء يهم جميعَ بني البشر في أنحاء العالم المختلفة، ويجب أن يُعْهَد به إلى مؤسسات علمية بحت، وتكون مشاريعُ الاستكشاف مشتركةً بين دولٍ متعددة، حتى وإن كانت متنافسة على الأرض، إلا أن الجهود في الكواكب الأخرى يجب أن تكون موحدة ومتناسقة ومتناغمة ومتكاملة مع بعضها، كي تكون منافعُها عامة لجميع سكان الارض، وتكون مضارُّها قليلةً وفي حدِّها الأدنى.

أما أن تتحول إلى تنافسات عسكرية واقتصادية، بل وربما تخريبية للتحكم بالنشاطات المشروعة للدول والشعوب الاخرى، فهذا هو الأمر الذي يجب أن تحذر منه البشرية، وأن يتصدى العلماء والحكماء في كل الدول لمحاولات بعض السياسيين في الدول الكبرى استخدام الفضاء الخارجي لتحقيق طموحات غير مشروعة قد تشكل خطرا على البشرية جمعاء، بل قد تفتح المجال أمام أنظمة سياسية ذات طبيعة عدوانية لدخول المنافسة واستخدام القدرات العلمية للتخريب والتوسع.