بعد عقد من الزمن تخللته مسارات الجفاء، مدت تركيا يديها تجاه مصر وتجاه السعودية، في خطوة سياسية مفاجئة ومفهومة في آن؛ مفاجئة بالنظر للسلوك التركي الذي طبع السنوات الأخيرة، ومفهومة إذا استعرضنا الدوافع الداخلية والخارجية التي صنعت الوعي التركي بأنه لا مخرج لأزماتها سوى التواصل الطبيعي مع محيطها العربي الإسلامي.
الاستدارة التركية نحو محور الاعتدال العربي، كانت استدارة مفاجئة إذا قورنت بسجل الممارسات التركية في السنوات الأخيرة، خاصة إذا اعتمدنا زمن الثورات العربية منطلقا منهجيا. الثورات العربية التي بدأت من تونس أواخر العام 2010 كانت منعرجا صنع انقساما عربيا بين معسكرين: معسكر انتصر للدولة الوطنية العربية وتمسك بعقل الدولة ضد صراخ الجماعات التي لا تقيم للدولة وزنا، ومعسكر ثان اصطف جنب الرياح الإخوانية التي هبّت مع الثورات. وكانت تركيا رائدة المعسكر الذي تجند لدعم الحضور الإخواني في أكثر من قطر عربي ولذلك وجدت دول عربية وازنة نفسها تجاه تهديد تركي واضح، في مصر (قبل 30 يونيو 2013) وفي سوريا وليبيا والعراق وتونس وفي أكثر من جغرافيا عربية. تتبعت أنقرة خارطة الحضور الإخواني واستنفرت قواها لدعم كل إمكانية يمكن أن تصعد بالجماعة إلى سدة السلطة أو تمكنها من وزن سياسي. في هذا الصدد توسعت الهوة بين محور الاعتدال العربي ومحور ثان ترعاه تركيا وتدعمه قطر وتستفيد منه أحزاب الإخوان في كل الأقطار العربية. ولذلك كله كانت الخطوة التركية تجاه مصر وتجاه المملكة العربية السعودية خطوة مفاجئة للمتابعين، ومباغتة للإخوان قبل غيرهم.
لكن هذا التحول التركي الأخير لم يكن وليد نزوة سياسية ولم يكن مجرد فرقعات إعلامية تستدرج بها أنقرة الود المصري والسعودي. نبعت الاستدارة التركية من تضافر عوامل موضوعية كثيرة؛ داخلية أولا، وإقليمية ودولية ثانيا، واقتصادية ثالثا.
فبالتزامن مع "العربدة" في المنطقة التركية، كان حزب العدالة والتنمية يعيش أزمات متواترة. خسر الحزب الحاكم الانتخابات البلدية في شهر يونيو 2019، وكانت تلك الخسارة فرصة لاستعادة مقولة شهيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان مفادها أن "من يفوز باسطنبول يفوز بتركيا"، وتبين أن حزب العدالة والتنمية بخسارته لاسطنبول يتهيأ لخسارة تركيا برمتها. تأكد ذلك مع توالي استقالات ثقيلة من الحزب الحاكم؛ استقال نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان (تحدث عن تباينات عميقة وعن الحاجة إلى رؤية جديدة)، وانسحب الرئيس السابق عبد الله غل، واستقال رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داوود أوغلو، يوم 13 سبتمبر 2019 وأعلن الذهاب إلى إنشاء حركة سياسية جديدة، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من أعضاء الحزب الذين تبرموا من سياسة أردوغان وزمرته. انسحابات واستقالات مثلت ضربات موجعة للحزب الحاكم، وعززت عزلة أردوغان وزمرته في البلاد. إضافة إلى هذه الأزمات السياسية عاشت تركيا في العام 2020 أزمة اقتصادية حادة، حيث سجلت الليرة التركية مستوى انخفاض قياسي بأكثر من 30 بالمئة مقابل الدولار خلال عام 2020. وهي سنة شهدت ترنحا في السياسة الاقتصادية وأنتج إقالة مدير البنك المركزي مراد أويصال، واستقالة وزير المالية براء البيرق.
في هذا السياق الداخلي والاقتصادي الموسوم بالتأزم عاشت أنقرة خلال العام 2020 فترات صعبة على المستوى الخارجي. توتر كاد يتحول إلى نزاع مع اليونان، وتشنج متواصل مع فرنسا غذته التصريحات المستفزة لأردوغان، وفرض بعض أقطار الاتحاد الأوروبي عقوبات على تركيا، وتدخل عسكري في ليبيا أنتج مشاكل كثيرة مع أغلب دول المحيط العربي، وتوتر مع العراق بسبب العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني، إضافة إلى استتباعات التدخل التركي في سوريا، وأخيرا دعم أنقرة لأذربيجان في حربها مع أرمينيا.
في هذا السياق السياسي المحكوم بالأزمات المتداخلة، عرفت المنطقة العربية في بداية العام 2021، مصالحة خليجية حاولت طيّ صفحة الخلافات بين محور الاعتدال العربي و"مشاغب" آخر، هو قطر. وكانت المصالحة الخليجية بمثابة دافع آخر لاستفاقة تركية نبهتها إلى وجود مياه جديدة تجري تحت الجسر، وبذلك كانت المصالحة الخليجية بمثابة "فرصة مهدورة" لتركيا، تعني خسارة فرص استثمارية واقتصادية كبيرة، وتعني كذلك تعزيزا لعزلة تركيا بعد بداية ذوبان الجليد العربي بين المملكة العربية السعودية وقطر، وتمثل أخيرا ضربة معنوية خطيرة لأنقرة باعتبار دورها المعروف في تعزيز الخلاف بين قطر ودول المقاطعة العربية.
تضافرت كل هذه العوامل لتجبر تركيا على أن تمد يديها تجاه كبريات الدول العربية؛ مصر والمملكة العربية السعودية. كانت الخطوة التركية واعية بأن المدخل الصحيح لاستعادة الدفء مع الدول العربية يمر بالضرورة عبر القاهرة والرياض. ولذلك تتالت الرسائل التركية تجاه مصر والسعودية. حيث أطلق أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو ووزير دفاع خلوصي أكار طائفة من التصريحات اتفقت على ضرورة إعادة الدماء إلى شرايين العلاقات التركية مع مصر والسعودية، علها تصلح ما أفسدته السياسة التركية وترمّم الأخاديد الكثيرة التي تركتها سنوات حكم العدالة والتنمية داخل تركيا وخارجها.
على ذلك أكد رجب طيب أردوغان، على وجود تعاون مع مصر في مجالات الاستخبارات والدبلوماسية والاقتصاد. ثم أعلن وزير الخارجية التركي في مارس الماضي عن عودة الاتصالات الدبلوماسية مع مصر من دون شروط مسبقة من الجانبين، وأن هذه الاتصالات تتم "على مستوى المخابرات ووزارة الخارجية". وقال وزير الدفاع خلوصي أكار، إن العلاقات بين بلاده ومصر في تطور، وستصل مستويات رفيعة قريبا. وأضاف "تجمعنا علاقات أخوة وصداقة وقيم مشتركة مع الشعب المصري، ولا يمكن فصلنا عن بعضنا البعض".
رسائل الود التي تنثرها أنقرة لم تقتصر على مصر بل توجهت أيضا نحو السعودية، فبين أواسط شهر أبريل وبداية شهر مايو الجاري أجرى رجب طيب أردوغان اتصالين هاتفيين مع العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، ما أدى إلى الإعلان عن نية وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إجراء زيارة إلى السعودية، أواسط شهر مايو الجاري. وكان الود التركي تجاه السعودية قد تجلى أيضا في تغير اللغة التركية تجاه المملكة حين رحب المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، بالمحاكمة التي أجرتها السعودية لقتلة جمال خاشقجي، والتي قضت العام الماضي بسجن 8 متهمين بقتل خاشقجي بين 7 سنوات و20 عاما. وقال كالين أواخر أبريل الماضي، إن "لديهم محكمة أجرت محاكمات. هم اتخذوا قرارا، وبالتالي فنحن نحترم ذلك القرار".
في المقابل لم تبادل مصر والسعودية الحماس التركي بمثله. وزير الخارجية المصري سامح شكري شدد أمام البرلمان المصري في شهر مارس الماضي على أن "الأقوال وحدها لا تكفي لابدّ أن تكون الأقوال مقرونة بأفعال". في حين راقبت المملكة السعودية الهرولة التركية تجاه إعادة العلاقات بتريث واضح عكسته ندرة التصريحات وتواصل توقف استيراد المنتجات التركية وسط تضامن شعبي مجرد من القرار الحكومي.
تمد أنقرة يدها بحماس ملفت، مقابل حذر عربي ملحوظ يعود في عمقه إلى أسباب متداخلة، أولها إدراك العواصم العربية لعمق الصلات التركية مع جماعات الإرهاب في المنطقة، وفي صدارتها جماعة الإخوان في أكثر من قطر عربي. وثانيها الوعي العربي بأن الاستدارة التركية حكمتها دوافع الاقتصاد وعوامل العزلة الإقليمية والدولية. وثالث أسباب الحذر العربي أن للقاهرة والرياض ثوابت مشتركة تختبر على أساسها أنقرة، ما جعل العاصمتين لا تصدق معسول الكلام التركي بل تقيّمه بمصفوفة أفعال هي، وحدها، تحدد عودة العلاقات إلى طبيعتها من عدمها. فلا يكفي أن توجه تركيا جملة رسائل سياسية وتصريحات دبلوماسية لكي تندفع الرياض والقاهرة إلى إعادة العلاقات إلى سالف حرارتها، بل إن ذلك محكوم بمجموعة محددة من الأفعال والإجراءات، تتشابه كثيرا مع الشروط التي وضعتها دول المقاطعة العربية على طاولة قطر. على تركيا أن توقف صلتها بجماعة الإخوان باعتبارها جماعة مصنفة إرهابية في أكثر من عاصمة عربية، وعلى أنقرة أن تسحب أصابعها العابثة في ليبيا وسوريا وفي العراق وفي كل المنطقة، وعلى أنقرة أن تراجع تحالفاتها المريبة مع أقطار وجماعات تتناقض معها القاهرة والرياض بشكل حاسم. الملفت في هذا الباب أن الحذر تجاه الانعطافة التركية المفاجئة لا يقتصر على العواصم العربية، بل يمتد أيضا إلى الداخل التركي في شكل شكوك تسيطر على الفاعلين السياسيين الأتراك، من معارضة ومتابعين، من كون هذا الود المباغت ليس سوى مناورة تركية جديدة تضاف إلى سلسلة المناورات القديمة التي تتقصد الانحناء حتى مرور العاصفة الاقتصادية والسياسية التي تهب على أنقرة.
يطرح هذا الحذر العربي، وهذه الشكوك الداخلية أسئلة كثيرة عن مآلات هذه الاستدارة التركية، أو إلى أين يمكن أن تفضي؟ وهذا السؤال محكوم بصدق نوايا الإرادة التركية. تقف القاهرة والرياض على أرضية صلبة مردها الوعي بالأهمية السياسية والاقتصادية للدولتين بالنسبة لتركيا ولكل دول المنطقة. وعلى ذلك فإن أنقرة مدعوة إلى إثبات حسن نواياها خاصة وأنها تعرف جيدا منطلقات الخلاف مع محور الاعتدال العربي وأسبابه، وتعرف تبعا لذلك كيفية إصلاح الشرخ الذي أصاب العلاقات.
"الظاهرة لا تزول إلا بزوال أسبابها" ففي عمق تلويح تركي متواصل بغصن الزيتون تجاه السعودية ومصر، يصبح الترياق الناجع لعودة تركيا إلى محيطها العربي والقطع النهائي مع إمكانية عودة الجفاء مع الأقطار العربية، هو انتهاء زمن حزب العدالة والتنمية، وبما أن الأقطار العربية لا تسمح لنفسها بالتدخل في شؤون أقطار أخرى، فإن الكرة في ملعب الشارع التركي الذي يمكنه أن يطوي صفحة الإخوان في تركيا، لأن حزب العدالة والتنمية حين يمد يده إلى إخوته في المنطقة فإن الأرجح أن ذلك مخاتلة أو مناورة أو اضطرار. ولعل انتهاء زمن الإخوان في تركيا هو وحده ما يمكن أن يصلح ما أفسدته سنوات حكم العدالة والتنمية في كامل أرجاء المنطقة العربية.