ولعل الجواب يأتي أولا من بحث مضمون كل من قيم الديمقراطية وإجراءاتها، وثانيا من العلاقة العضوية بينهما، بمقدار ما المبادئ والقيم هي ذات ثبات معياري أخلاقي إنساني، والإجراءات والآليات تتطور مع مرور الزمن، وباختلاف الأماكن وتطور الوقائع الاجتماعية، بينما العلاقة الأكيدة بينهما إن هي إلا علاقة الارتباط الوثيق، فالإجراءات تنبري حسب تطور تجارب الاجتماع السياسي البشري لضمان تنزيل المبادئ، بل وإنها هي الوعاء التحتي الذي لا يني يتطور ويتناسل لكي يحافظ على المصدر الفوقي الذي تمثله تلك القيم.

إن قيم الديمقراطية تدور وجودا وعدما حول مفهوم المواطنة، بمضمونه الإنساني الذي يتقاسمه جميع الأفراد داخل الاجتماع السياسي، سواء أكانوا أطفالا أم راشدين، سجناء أو أحرار، مجانين أم عقلاء، جنودا أم مدنيين.

والمدلول السياسي والقانوني، الذي يعطي الحقوق والصفات والصلاحيات لأفراد وينزعها من آخرين، حسب ما يقتضيه مبدأ المسؤولية الناظم للتعاقد داخل الاجتماع السياسي الحديث، وتطبيقاته المتعددة الأوجه والمستويات.

وتبعا لمركزية مفهوم المواطنة ذاك داخل منظومة قيم الديمقراطية، تتموضع كل القيم الأخرى من حرية وعدالة ومساواة، وما يرتبط بها من حقوق وواجبات، وليست إجراءات من قبيل طرق اكتساب إحدى السلطات وأنماط تداولها وضبط العلاقات بينها، سوى أدوات وظيفتها الأساسية تمكين المواطن من حقوق المواطنة وإلزامه بواجباتها.

وبالتالي فإن "نظرية الديمقراطية" كما صاغتها الحداثة السياسية منذ لاحت بشائر معاهدة ويستفاليا، منتصف القرن السابع عشر، قد انكبت رويدا رويدا على ترسيخ القيم، بل إن الفاعلين الاجتماعيين قد تصارعوا منذئذ في أوروبا الغربية من أجل تلك القيم، ووصولا إلى اليوم كلما ثار نقاش ذو صلة بالموضوع إلا وكان من أجل الحفاظ على تلك القيم والمبادئ، فيما بقي عالمنا العربي، ومنذ الستينيات تقريبا حبيس الصراع حول الأشكال والنظم والإجراءات والتقنيات، بدءا من أنماط التعددية الحزبية وشكل نظم الحكم، وصولا إلى أنماط الاقتراع وتقنيات التقطيع الانتخابي، وطرق احتساب الأصوات، وهو الجدل الذي دائما ما تؤججه تيارات الإخوان في كل الأقطار، ظنا منها أن تلك الإجراءات إذا ما تم بترها عن قيمها المؤسسة لها في تجارب الشعوب، ستكون سلَّما مناسبا يوصل الإخوان إلى السلطة، ومن ثم ينبغي الإلقاء بالسلم سريعا وتحطيمه وإحراق أخشابه.

ولعل الدرس الذي لقنته التجربة الديمقراطية اليوم في المغرب للحزب الإخواني الذي يقود الحكومة منذ عقد من الزمان، إنما يكشف أن هؤلاء قد أتى عليهم شر أعمالهم، ذلك أن الأطروحة التي لطالما تبنوها منذ أيام حسن البنا ومفهومه حول الديمقراطية، فاصلا قيمها التي يرفضها، عن إجراءاتها، التي هي في نظره وسيلة للوصول إلى السلطة، قد سقطت، وتبدى أن الإجراءات والتقنيات ليس لها من وظيفة سوى أن تكفل للقيم مساحة لكي تعيش وتؤدي دورها الإنساني الأخلاقي، إذ لا معنى مثلا للتعددية الحزبية، كأحد أرقى الاختيارات الديمقراطية الناظمة للحياة السياسية والحزبية، إن لم تتوافق معه تقنيات من قبيل الانتخاب والتقطيع الانتخابي وكذا طرق احتساب الأصوات، وذلك على نحو اعتماد قاسم انتخابي يقوم على عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، بما يُفرغ العزوف الانتخابي من معناه، ويحمّل المواطنين مسؤولية النتائج، وفي الآن نفسه يفسح المجال أمام جميع الأحزاب لكي تمثل من يصوتون عليها على قلتهم.

إن المشكلة القابعة في عقل الإخوان السياسي هي تلك التي تنظر إلى قيم الديمقراطية، والتي تؤطرها مقولات من قبيل "العلمانية" و"الحداثة" على أنها كفر في المحتوى والأدوات والنتائج، وهذا الموقف لم يتعرض للمراجعة من طرف الإخوان منذ العام 1928، سنة ميلاد الجماعة في مصر، بينما كل الإجراءات والآليات هي في نظرهم الباب الخلفي الذي يمكن المخاتلة عبره والمخادعة والمناورة والاستدارة للوصول إلى الحكم، ومن ثم فلا بأس من اعتبار ذلك الوصول بمثابة "عرس للديمقراطية ومأتمها" في ذات اللحظة، كما حصل في كل اللحظات التي استولى فيها الإخوان على السلطة في السودان ومصر والجزائر.

فالحقيقة التي يرفض الإخوان دائما الإذعان لها هي أن قيم الديمقراطية حاجة للشعوب والمجتمعات، مهما جرى تضليل وعي الناس وتخييله باسم مقولات تنتسب إلى الدين زورا، إذ سريعا ما يلفظ الناس الدجل السياسي، لتبقى الإجراءات في الديمقراطية بمثابة الجسد الذي وظيفته تتلخص في كونه حامل الروح وجسرها نحو الوجود، وليكون الحكم الديمقراطي هو تحقيق العدالة والتنمية والمساواة بما يتناسب من إجراءات، وليس تقديس الإجراءات حتى لو كانت هادمة لروح الديمقراطية، لأن الأمر حينئذ سيكون أشبه بسائق يصر على حقه في دهس أطفال يعبرون ممر الراجلين بعد أن اشتعل الضوء الأحمر.