المسيو" فرانسوا رابليه" أصدق دليل على الإستهتار الذي حذّرت منه الوصيّة الثانية، المزبورة على مدخل معبد دلفى، المترجمة في حرف الأمر الصارم: "تشبّث بالإعتدال!".
إنها التحريم الصارم في حقّ الشطط، المبرهن على إلمامٍ عميق بحقيقة الطبيعة الإنسانية، التي لا تتردّد في أن تقفز فوق المنطق، ما أن يجنح بها الخيال، فتقترف آثاماً لا في حقّ المنطق وحده، ولكن في حقّ الحقيقة أيضاً. وشطحات المسيو "رابليه" لا تحقق الأسطرة عندما تستسلم للهوى، فتتحرر من المنطق، لتتحرّر بالتالي من شَرَكٍ ٍكريه، هو دوماً وهق في عنق المبدع، ولكنها بتسليم الزمام لشيطان الغلوّ، تفسد حجّتها، تعتنق، بهذه الشطحة الجنونية، روحاً عدميّة، لن تجد اعترافاً حتى في عالم المجانين، برغم أنها قد تجد استحساناً لدى ملل العابثين الذين يرفضون، عن عمد، الإعتراف بوجود منطق في عالم مسكون بباطل الأباطيل كعالمنا، مما يبيح التحجّج بوصيّة "نيتشه": "لا وجود لحقيقة! كل شيء مباح!".
فهل الأمر كناية عن استجابة لمنطق اللا منطق الذي يرفض الإعتراف بوجود قواعد تحكم وجودنا، وتقنّن بالتالي، علاقتنا بعالمٍ، هو في الواقع علمٌ، كالميثولوجيا؟
قراءة عابرة لنموذج كلاسيكي في مقام رابليه سوف يكشف لنا حقيقة أسيفة، هي أن الإستهتار بناموس الأسطرة هنا ليس نتيجة تجاهل للأعراف التي تحكم الميثولوجيا، ولكنه جهلٌ صريح بحقيقة هذه الأعراف.
وهي نزعة، في يقيني، ناجمة عن ضعفٍ أمام إغواء التسلية.
فالشغف باللهو كان دوماً حجّة في إهانة المنطق، ومبرّرٌ لتسويق العبث في صيغته الحرفيّة. فالحيلة المناسبة للتنصّل من وزرٍ عظيمٍ كالواجب (والإلتزام بالأعراف السائدة أنبل واجب)، هو إدّعاء نوبة جنون، على طريقة "أوليس"، عندما أقبل عليه وفد "أجاممنون" للإنضمام إلى الحلف في حرف طروادة، وكادت الحيلة أن تنطلي على أعضاء الوفد لو لم يهرع لنجدتهم أحد الدهاة الذي جرّد النصل ووضعه على نحر سليل "أوليس" في نيّةٍ لذبحه، فلم يجد إمام الدهاء مفرّاً من الإستسلام، والتخلّي عن اللعب!
"رابليه" أيضاً في أمسّ الحاجة لمن يوقظه من نوبة جنونه، كي يعلم أن الشطح أيضاً له قوانين، فإن تجاوز تخوم المعقول، تحوّل هذياناً؛ ذلك أن البُعد الغيبي، الذي نراهن عليه في إنتاج الروح الأسطورية، معبود صارم، لا يتسامح في الإستخفاف بوصاياه أبداً، والبرهان تتحفنا به سادنة معبد دلفى، التي أقبل عليها أحد الأشقياء يوماً طلباً لنبوءة، عمّا إذا كان سيجد حصانه الضائع، فما كان من العرّافة إلاّ أن تأمّلته مليّاً قبل أن تخبره بأنه سوف يعثر على حصانه الضائع، فما كان منه إلاّ أن قهقه استهزاءً، لأنه لا يملك حصاناً أصلاً. ولكنه اقترف في أحد الأيام خطيئة في حقّ الحاكم، فأمر بأن يُصلب على صخرة باسم "الحصان"!
هذا لا يعني أن الجنون لم ينتج لنا إبداعاً؛ وتاريخ الأدب يبرهن على ثراء هذا المصاب أيضاً. فجلّ العباقرة مصابون بنصيبٍ من لوثة جنون، بدايةً برائد الرواية في التاريخ أبولييوس الليبي، مروراً بـ هوفمان، وآلان بو، وسترندبرغ، وفان غوغ، ونيتشه، ودوستويفسكي، دون أن يبيح لهم هذا الداء العبث بأبجدّات العمل الإبداعي، لأنهم أفلحوا على نحوٍ مّا في كبح جماح المخيال الجنوني، وحشره في حدود الإعتدال: هذا الإعتدال الذي وضعه ربّ معبد دلفى برهاناً على الحكمة الدهرية، إلى جانب: "إعرف نفسك!" و"لا تثق بأحد!"، لأنه رهانٌ على الحضور في البرزخ. برزخ هو وَقفة شاهد العيان التي تتوسّط. تتوسّط لتصالح بين بُعدَين هما بالطبيعة خصمان. ضدّان لدودان يغترب كل منهما عن الآخر بغياب الحدود، ليفقد كل منهما، بالشطط، طبيعته، يفقد كل قطب فيهما هويّته. يفقد كل منهما، حريّته، لأن التطرّف يحررهما في البُعد الأقصى بما هو حرية. حرية لا وجود لها إلا بالحضور في الموت! ولذا فالشطط هو دوماً ضرب من الشغف بالتضحية، لتحقيق حرية لا وجود لها خارج الموت. التوق لعبور البرزخ دوماً إنكار للواقع الحرفيّ، المشوّه بزيف الباطل، وطلب لحقيقة لا وجود لها خارج الموت؛ حتى إذا امتنع الإختراق، وانكسر الجناح بالمخيال المحموم، كان الجنون في الإنتظار، ليصير للخلاص المأمول بديلاً، ليدرك المريد أن التجديف في حقّ الإعتدال، إنّما هو تجديفٌ في حقّ الوصيّة النبوية، تجديفٌ في حقّ المشيئة الربوبية؛ لأنه تجديفٌ في حق قدس أقداس هو: العدالة!
والجنون هو القصاص الذي علينا أن نرتضيه، مقابل التجديف في حقّ العدالة. والمأزق دوماً يتعلّق بسلطة الزمن. ففي الوقت الذي يراهن فيه منطق الخيال على الحجّة الحرفيّة، في تغنّيها ببُعد الوجود الفاني، تعتمد الأسطورة أحجية أخرى هي: الخلود؛ وتسوّقها قياساً في تحديد قيمة ذات شأن، لأنها لن تكون هنا سوى الحقيقة.
فالوجود الحرفيّ، أي ما نسمّيه الواقع، وقتيّ بالضرورة. وأن يكون وقتيّاً يعني أنه فانٍ. وأن يكون فانياً يعني أنه باطل. وأن يكون باطلاً فهذا يعني أنه غير حقيقي. وما ليس حقيقياً فهو ما لا يعوّل عليه مبدئيّاً، ما دام رهان السرد هو الحقيقة.
هنا مرتع الخصام؛ لأن رأسمال الإبداع هو المنطق. هو اللغة.
ولكن المفارقة أن اللغة ليست ترجماناً للحقيقة، لأن الأخيرة لا حضور لها في اللغة، فلا تعترف بغير الأسطورة وسيطاً، لأن الأسطورة، في منطقها وحدها عرّاب غيوب. أي أنها علم لاهوت، السابق في نشأته، على علمٍ اللاهوت. وما سلطانها الطاغي، في واقع المخلوق البشري، إلاّ برهان على انتماء الأسطورة إلى حرم هذا الملكوت، الذي كان له الفضل في تشكيل الوعي بالهويّة الأبعد منالاً من الهوية الأرضيّة: الهوية الروحيّة! ولذا كانت الأسطورة، منذ البدء، الناطق المخوّل باسم ذلك الأمر الجلل الذي لا يسمّى، لأنه معصومٌ من الدنس، ومنزّه عن عضلة مسمومة كاللسان، ولا يرتضي بغير الإيماء لغةً، ولم يُستحضر ليكون الناطق بكلمة السرّ بالإنابة، إلاّ لماهيّته كوصيّ على علم الإيماء: الأسطورة!
فالأنبياء لا ينطقون إلاّ رمزاً، وسدنة المعابد لا يتراطنون إلاّ إيماءً، وكل مَن انتمى بنسب إلى الحكمة صام عن استخدام العضلة المشئومة، واعتنق الإشارة ديناً، امتثالاً لفرمان الألوهة بحقّ العدالة؛ لأن كل ما هو تقوى فهو: عَدلٌ.
والبرهان؟
يكفي أن نستنطق النموذج البدْئيّ، الذي نصّبه دهاة الحكمة الأوائل نموذجاً للتعبير عن موقفهم من الإعتدال، كمفهوم ما لبث أن استقام في نظام مقدّس، صار حجر الزاوية في كيان ذلك النظام الذي ضمن حضور الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، ولم يجدوا ترجماناً أميناً لحقيقته سوى: العلامة.
فقدس أقداس كالعدالة هو رهان من إنتاج مبدأ الإعتدال. وهو مثال ليس بلا خصال. وأول خصلة في أبجديّة المثال هو الجمال بالطبع. ولا وجود لحيلة للإيقاع بالجمال سوى الإستعانة بالحرف، لاستنزال الجمال من البعد الضائع، من وطن المثال، فاستظهره العرّابون في قوامٍ آية في الجمال، ليكون الوصيّ في الواقع على الإعتدال، مجسّداً في قامة الحسناء، المعصوبة العينين، الممسكة بالميزان.
فالعصابة حول العينين تعبيرٌ عن موقف من مبدأ الحسّ، ومن كل ما متّ بصلة لأهواءٍ، هي في نشاط الإنسان وباء. فالوصيّ على الحكم، في حقّ العدالة، هو خصمٌ لجناب الحسّ، ولكلّ الحواس، باستثناء حاسّة وحيدة، نصّبتها الطبيعة على النبوّة قاضياً، وهي: السمع، بسبب سجيّتها السماوية.
فاللغة نفسها تهرع لنجدتها في شأن هوية السمع اللا أرضيّة. فكلمة "سمع" في العربية هي "سما"، لأن العين ليست سوى همزة في هذه اللغة، لا نطقاً وحسب، ولكن حرفاً أيضاً، مع الحرص على تصغير حجم الهمزة في مقابل العين. والدليل ورثناه في الكلمات الأعجمية التي تبتديء بالهمزة كي تتحوّل في لغتنا عينا (أوليس يتحوّل عوليس، وإمانويل ينقلب عمانويل.. إلخ). وهو ما يعني أن كلمة: سمع، إنما هي كلمة: سما حرفاً ومدلولاً. فالصوت هويّة سماوية، ولذا فهو ماهيّة ألوهيّة. فالنبوّة تتنزّل دوماً كنداء، كهتاف بعيد، أو ما يسمّيه فقهاء اللغة "رِزٌّ"، أي جنسٌ من لحنٍ بعيد، شبيه بطنين النّحل. ويروي هيرودوت كيف كان قدماء الليبيين، يذهبون للنوم فوق أضرحة الأسلاف، طلباً للنبوءة؛ ويؤكد أحفادهم طوارق اليوم أن طنين النحل هو الصوت الذي يلعب دور قرون الإستشعار التي تسبق الفوز بالنبوءة! وهو ما تتغنّى به عرافات معبد دلفى أيضاً. فهو واقع لا يقتصر على الوحي النبوي وحده، ولكنه طبيعة تلازم الإلهام إجمالاً. والدليل يرويه نيتشه في "ميلاد التراجيديا" نقلاً عن شيللر الذي يقول أنه يتلقّى الإلهام الشعري في نداء ملحون، أي في نبرة موسيقى، تتردّد لتستوي في هتاف مبهم.
وأحسب أن هذا الخطاب هو، في واقع كل مبدع، قدر. فالعبور إلى فراديس الوحي مغامرة لا تتحقق بدون جواز مرور، أي كلمة سرّ، يروق للبعض أن يسمّيها إيقاعاً، أو نغمةً، أو إلهاماً.
والسمع هو بوّابة هذا العبور العصيّ إلى رحاب ملكوت الربّ.
وعلّ أكثر ما يثير الدهشة هو ازدواج الهوية في هذه الرسالة الصوتيّة. فهو سماويّ بالذخيرة، بل وبالمنطلق، ولكنه، يا لللأعجوبة، لا يتجلّى، ليستعير في الأذن سلطاناً، إلاّ بمشيئة وسيط هو: الأرض!
والدليل تتحفنا به اللغة مرة أخرى. فنحن لا نملك إلاّ أن نجثو أرضاً لنمارس صلاةً، مترجمةً في حرف تلك السجدة الجليلة، التي نلصق بموجبها الجسد بصدر الأمّ، بصدر الأرض، في نيّة صادقة لتحقيق التماهي بما كان رحماً، ثمّ حضناً، ثم مسقط رأس، ليهبنا، في قناة هي الأذن، اليقين.
اليقين بماذا؟
اليقين بحقيقة الصوت، بحقيقة الـ رِزّ المهلهل، المبلبل، المجبول باللا معقول، المسكون بالأنشودة الأسطورية، التي لن تكون سوى الحلم الخالد بالخلاص، الذي لا وجود له إلاّ بشهادة النبوءة.
في معجم اللاهوت نسمي هذه الممارسة الطقسية: سجوداً.
وكم سيفاجئنا أن نعلم أن فعل "يسجد" إنّما يعني في اللغة البدئية: "يسمع"، أو "يتنصّت"، كما هو مازال متداولاً في لغة الطوارق إلى اليوم. فالسجود، إذاً، هو سمعٌ، إنصاتٌ، أو بكلمة أدق: تنصّتٌ، أي، بمنطق اللغة، هو ضربٌ من تجسّس، جنس استجداء في طلب غنيمة نفيسة، بل مستحيلة، بدون دفع مكوس، ندفن بموجبها الرأس في التراب، في الطينة، بالعوم في مياه الأجنّة، حيث خضنا تجربة ارتياد منازل المخاض، قبل أن نمتطي جناح المعراج الذي سوّانا في قمقم "كُنْ"، لنعلم أننا لسنا سوى سلالة انبثقت بموجب صفقة بين أرضٍ هي أمّ، وسماءٌ هي أب، فلا نملك إلاّ أن نركع أرضاً، ونسلّم زمام الأمر للأسافل، لكي نتلقّى من فمها الصوت، نتلقّى الهمسة السحرية، نتلقّف كلمة السرّ، نتلقّف النبوءة، المترجمة في حرف "كن"، لنتغنّى بها، فتتخلّلنا، تسري فينا، كلّما عنّ لنا أن نرتاد رحاب فردوسنا الضائع، لنبعث من ميتة كل يوم أحياةً، فنتجدّد في حمّى طقس حميم، لم يجد أهل التقوى إسماً يليق به سوى: الصلاة!
فنحن في دنيا باطلنا مغتربون، ولا نعود من منافينا إلاّ بهذه السجدة، بهذه النغمة الخارقة، التي تعيدنا إلى صوابنا، فنهوي أرضاً، لنسلّم آذاننا للسان الأمّ، تعبيراً عن توبتنا، وطمعاً في أن نتلقّى من همستها الغفران، حتى يكون لنا زاداً في سفر ما تبقّى من أيام عمرنا الفاني.
هذا الصوت المستحيل، الذي نحاول أن نعترضه لحظة انطلاقته من ملكوت الأعالي، فيعبرنا عرضاً كأحجية، فلا نستوعب البلاغ في حرفه ، ما لم نتطهّر بنيّةٍ هي شرط كل صلاة، لكي نهوي أرضاً، لنتلقّى الدرس، في تلك الشطحة الوجدانية المحمومة، هو بالضبط ما حاول دهاة المسرح اليوناني، في عهده الكلاسيكي، أن يعبّروا عنه (أسخيلوس وسوفوكليس وأوروبيدس)، ليقولوا من وراء ستور الخشبة، كلمة القدر، بالإنابة، لأن ليس لأشباح فانية تدمن أفيون اللهوّ أن تدلي بشهادة الحقيقة، مترجمَةً بعضلة الدنس، فاستعانوا بمعزوفة الغيوب، التي يهتف فيها نذير الخافيات بالوحي من وراء حجاب، فلا يبقى لنا إلاّ أن نسمع، أن ننصت مليّاً، لكي نتبيّن موقعنا، في الصفقة المبرمة بين الأب والأم، بين السماء والأرض، مادام حلولنا في البرزخ الفاصل بين هذين القطبين، هو الحُجّة في وجود العلاقة. الحجّة في وجود الوجود. وموقفنا في البرزخ برهانٌ على خطورة الحدّ، وقداسة الوسط، حيث يستعير الإنسان مكانة القطب، مكانة القلب، في علاقة كانت قبل حضوره حكراً على البعدين الأبديين (السماء والأرض)، فيتنازلا عن هويتيهما كقطبين، بحكم طبيعة الإعتدال التي توحّدهما، توحدهما بفضل وجوده هو بينهما، لا لكي يسكن إليهما، ولكن لكي ينفيهما كليهما.
هذا النفي هو ما يحقق مكانة المركز، يحقق موقع الوسط، البرزخ، أي: الإعتدال، الوارد في وصيّة إله معبد دلفى، لأن الإعتدال، هو الحصانة التي تبيح للسليل أن يسرح في بُعدٍ آخر، أن يحطّ الرحال في مدارٍ آخر، أن يسبح في فلكٍ آخر، ينتحل فيه هوية القطبين، ليغدو منذ الآن هو: القطب، فلا يبقى مجرد حجّة، ولكنه يكتسب منزلة الغاية.
فهل الإعتدال تحصّنٌ بموقف حياد؟
موقف الإعتدال، بما هو ترياق لمداواة الشغف بالأبعاد القصوى، ليس حياداً، ولكنه شاهد العيان الذي لا يتردّد في الإدلاء بشهادته في ساحة العدالة، محاذراً التجديف في حقّ الحدود. فعندما يتغنّى حكيمٌ في مقام "آنهي" بوصاياه، التي عرفت طريقها تالياً إلى أسفار العهد القديم: "العين بالعين، والسنّ بالسنّ"، فهو لا يبيح لنفسه غلوّاً في استنزال القصاص، فيسمل عينين إثنتين، بدل العين الواحدة، أو يهتم سنّين إثنين، بدل السنّ الواحدة، لأن ذلك استباحة لحرمة حدود، واستسلام لنداء رذيل لا يمتّ لجلالة العدالة بصلة، وهو: الإنتقام!
والمسيو فرانسوا رابليه لا يكتفي بتسفيه حجّة الإبداع عندما يجدّف في حقّ ما نصّبه حكيم الأجيال (أفلاطون)، ومن بعده معلّم الأجيال (أرسطو)، قياساً في استجلاء الحقيقة، وغاية في عملية كل خلق، كما الأسطورة (الأسطورة في مفهوم الـ ميثوس)، ولكنه يقترف خطيئة، هي ضربٌ من انتقام، باعتناق دين "كل شيء مباح، مادام لا وجود لشيء حقيقي"، ليقنعنا بقدرة السائل الذي يفرزه الجسد ليتحوّل سيولاً تغرق المدن، أو ما شابه من شطح من شأنه أن ينزع الأسطورة من رحاب وطن الرؤى السماوية.
ملاحظة:
في حمّى احتفائنا باحتلال موقع الوسط، ننسى أن هذا الوضع حضورٌ في الحدّ. حضورٌ في البرزخ الواقع بين طرفين هما بالطبيعة خصمان. طرفان كل منهما في ذاته قطب. وهو حضورٌ في بؤرةٍ تلامس الطرفين. أي أنه حيّز تماسّ.
والتماس قبول باكتساب خصال القطبين. خصال تحمل جرثومة الطبيعة في كلا هذين البعدين المتعاديين، وهو ما يعني انتماء من جنسٍ مّا لماهية هذين البعدين، ليغدو التجديف في حقّ أي طرف فيهما هو تجديف في حقّ الحياد: الحياد المستوجب بحكم التوسّط. والتجديف في حق الوسط، بوصفه اعتدالاً، ليس مجرد موقف من وضعٍ يمليه الموقع، ولكنه شروعٌ في ممارسة عدوان. لماذا؟ ببساطة لأن المبالغة في الدفاع عن النفس هو، في عُرف العُرف عدوانٌ.
ففي "الجريمة والعقاب"، يتعمّد دوستويفسكي استخدام كلمة: Преступление في معنى الجريمة، وهي اشتقاقٌ من فعل Преступить الدال، في الأرومة، على مبدأ ثريّ ينتج أبعاداً ذات مستويات في سفر عبوره نحو الحدود. فهو يعني: التخطّي، أو التجاوز، الذي إذا بالغ في شطحة تحوّل تعدّياً، التعدّي على حقوق البعد المجاور، ليستعير هوية العدوان. والعدوان، في منطق اللغة، جُورٌ. والجور في منطق الأخلاق، هو الخطيئة في حقّ الحدود. خطيئة مقترفة في حقّ المعبود. أي أن غاية دوستويفسكي ترجمة الماهية الأخلاقية الكامنة في مفردة ذات شفافية في اللغة الروسية، بحيث تؤكد على موقف اللاهوت من فعل الإخلال بالتوازن الوجودي، الذي يسكن الوسط، من خلال الإستسلام للهوى، المؤدّي إلى الإنحياز: انحياز لاجتياز الحرم، والتخطي، للعبور إلى الشَّرَك، الدال، في لغتنا الدنيوية، على فعل الجريمة. الجريمة لا في مفهوم القانون الوضعي، ولكن في بُعدها الأبعد. في بُعد المنطق الألوهيّ. ولذا نلاحظ، من خلال معاناة راسكولنيكوف النفسيّة، الأقسى مفعولاً، من حكم القضاء الوضعي، كيف تكتسب صيغة الحساب أبعاداً روحية، في ملحمة القصاص، المستنزل في حقّ صاحب التجديف.
فالحقيقة في أمانٍ، ما طاب لنا الحضور في البرزخ، فإن شطحت بنا الأهواء، فليس لنا إلاّ انتظار القصاص.