في الجزء الأول من هذا المقال أشرنا إلى أن التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف تستند إلى ركيزتين أساسيتين هما سبب نجاحها وسر تميزها عن غيرها من تجارب دول أخرى.
الركيزة الأولى هي الرؤية التي تنطلق منها جهود الإمارات في المكافحة، وهي رؤية متفردة لا تنظر للإرهاب والتطرف على أنه تهديد داخلي فحسب وإنما تهديد لأمن واستقرار محيطها الإقليمي القريب ومحيطها الدولي الأبعد، وبالتالي فإن الرؤية الإماراتية هنا قائمة على أن انتفاء خطر الإرهاب والتطرف داخل حدودها أو عدم وجود تهديد آني عليها لا يعني عدم وجود تهديد مستقبلي، وبالتالي لا يستدعي ذلك انتفاء دورها في مواجهة هذه الشرور.
وهنا تنطلق الإمارات من قناعة رئيسية تتمثل في أنه وإن تلاشى الخطر المباشر للإرهاب عليها آنيا أو حتى مستقبلا، فإنه لا يمكنها أن تعيش مستقرة في ظل محيط غير مستقر يعاني من ويلات الإرهاب والتطرف.
أما الركيزة الثانية وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالركيزة الأولى ونتيجة طبيعية لها فتتمثل في أن مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب أصبحت على رأس أولويات صناع القرار في دولة الإمارات ومحركا أساسيا لسياستها الخارجية، وليس فقط لسياساتها الداخلية، ما يعكس رؤية وإرادة إماراتية قل نظيرها للتصدي لهذه الظاهرة وتخليص العالم منها، وصناعة مستقبل أفضل للشعوب محصن من خطر الإرهاب وآفة التطرف.
وهناك نماذج كثيرة تشير إلى أن المقاربة الإماراتية في مكافحة التطرف تعتمد على شمول المواجهة التي تبدأ من التصدي للفكر الفاسد والإيديولوجيات المتطرفة التي تغذي العنف والكراهية، وتحرض على القتل والدمار، وتمتد إلى التمويل ووسائل التجنيد والدعاية وتنتهي بالتنظيمات الإرهابية المسلحة.
وإجمالا يمكن القول إن الإمارات تبنت استراتيجية شاملة لمواجهة الجوانب المتعددة للظاهرة الإرهابية عبر ثلاث محاور أساسية أولها هو المحور الديني والثقافي والإعلامي، وثانيها هو المحور القانوني والتشريعي، وثالثها المحور الأمني، ونكتفي في هذا المقال باستعراض المحور الأول فيما نخصص المقال المقبل للمحورين الثاني والثالث.
أولا: المحور الديني والثقافي والإعلامي:
تستضيف الإمارات وترعى عدد كبير من المؤسسات التي تعمل على تصحيح الأفكار المغلوطة التي يتغذى عليها التطرف، ومن بينها مجلس حكماء المسلمين، الذي يهدف إلى تحقيق السلم والتعايش في العالم الإسلامي ومحاربة الطائفية، كذلك تستضيف المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، والذي يلعب دورا مهما في تجديد الخطاب الديني من خلال إيجاد قواعد وأصول وأحكام تعزز من قيم المواطنة والتسامح والتعايش المشترك ونبذ الإرهاب والتطرف.
كما تستضيف الإمارات سنويا "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" الذي صار خلال سبع سنوات لاعبا محوريا في تعزيز قيم التسامح والتقريب بين الشعوب وترسيخ ثقافة الحوار بين الثقافات والديانات والحضارات المختلفة وإعلاء قيمة الإنسانية وفضيلة العيش المشترك وتعزيز السلم بين الشعوب كافة.
كذلك تستضيف الإمارات مؤسسة أخرى مرموقة في مجال نشر التسامح دوليا، وهي المعهد الدولي للتسامح التابع لمؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، والذي أعلن في نوفمبر الماضي عن إطلاق 8 مبادرات جديدة ضمن سلسلة من الفعاليات والبرامج المدرجة في خطته الاستراتيجية الرامية إلى تدعيم قيم ومبادئ التسامح لدى المجتمعات الإنسانية.
وترتكز هذه المبادرات الجديدة على جملة من البرامج والأنشطة والفعاليات المتنوعة، تشمل الأجندة السنوية للتسامح، ومبادرة التسامح بلغات العالم، ومبادرة معا نحن أفضل، ومبادرة التسامح في لوحة فنية، ويوم التسامح المدرسي، وميدالية التسامح، والتسامح في صورة، ومبادرة مشاريع الشباب والإعلام، مستهدفة كافة فئات وشرائح المجتمع الإماراتي.
وتتماشى القطاعات المستهدفة في هذه المبادرات مع توجهات دولة الإمارات الرامية إلى ترسيخ التسامح قيمة حضارية أساسية في مسيرة التنمية الشاملة، وهي كذلك قيمة تسهم على خلق تعايش مبني على الاحترام والتقدير وقبول الاختلاف واحترامه كونه مصدر التميز والقوة للمجتمعات الإنسانية قاطبة، ولا يكاد يخلو شهر من شهور السنة من تنظيم الإمارات فاعلية دولية أو إقليمية تعني بمكافحة التطرف والإرهاب أو تنشد نشر قيم التسامح.
كذلك تعد الإمارات من أبرز الدول الداعمة للمركز الدولي لمكافحة التطرف العنيف "هداية"، والذي تستضيفه عاصمتها أبوظبي، كما تعتبر من الأعضاء المؤسسين لمركز "صواب" الهادف لمواجهة أكاذيب "داعش" عبر الإنترنت وفضحها عبر إطلاق حملات توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما يسهم بالتصدي للخطاب المتطرف.
وقبل كل ذلك ومعه وبعده قامت الإمارات من خلال الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بغرس وتعزيز قيم إنسانية سامية كالاعتدال وقبول الآخر والتعايش والتسامح والوسطية في المجتمع الإماراتي، باعتبار أن هذه المنظومة القيمية هي الحصن الرئيسي وحائط الصد الأساسي في مواجهة الأفكار المتطرفة التي تتربص بالمجتمعات العربية والإسلامية، وهنا لم تقتصر الإمارات في جهود مكافحتها للتطرف على تحصين الشباب من الخطاب الإرهابي فقط، بل حرصت أيضا على أن يكون الشباب في مقدمة من يقود الجهود الرامية لمنع التطرف، فقامت بتأسيس مجالس للشباب لتشكل جسرا للتعبير عن آراء الشباب وطموحاتهم
وفي إطار جهود المواجهة الفكرية للتطرف أيضا كانت الإمارات أكثر دول المنطقة جرأة في التصدي لتجديد الخطاب الديني وكان شبعها الأكثر انضباطا في تعامله مع المسألة الدينية، لذا لم تشهد أي موجات من التطرف العنيف أو الإرهاب، يضاف إلى ذلك تصديها الفوري والحاسم لأي محاولات لتسييس الدين أو تأويل النصوص الدينية.
كما يدخل في إطار هذه الجهود تعامل الإمارات مع فضيلة التسامح بشكل مؤسسي تجاوز التأكيد عليها في الخطاب الرسمي للدولة إلى إنشاء وزارة باسمها وتبنى برنامج وطني متكامل للتسامح يعمل ضمن خمسة محاور رئيسة ترتكز على: تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح، وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء المجتمع، وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف، وإثراء المحتوى العلمي والثقافي، والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز التسامح وإبراز الدور الرائد للدولة في هذا المجال.
كما يتضمن البرنامج الوطني للتسامح العديد من المبادرات الطموحة التي سيحدث تنفيذها فارقا كبيرا، منها مبادرة صوت التسامح، والتي تقوم على اختيار أفراد من مختلف شرائح المجتمع لنشر قيم التسامح ونبذ العنصرية والكراهية، ومبادرة إنشاء مجلس المفكرين للتسامح، والذي سيضم الجهات ذات العلاقة، بالإضافة إلى نخبة من أهل العلم والخبرة والفكر والاختصاص، والذين سيعملون على المساهمة في وضع السياسات والاستراتيجيات التي تعزز التسامح واحترام التعددية الثقافية وتنبذ العصبية والكراهية والتطرف، فضلا عن دور المجلس في تقديم المبادرات التي ستعزز التسامح وتنشر قيمه ومبادئه محليا وإقليميا ودوليا.
ومن ضمن المبادرات أيضا برنامج المسؤولية التسامحية للمؤسسات، والذي يعد البرنامج الأول على مستوى العالم، ويهدف إلى نشر قيم التسامح في الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، وذلك من خلال الالتزام بمعايير ومؤشرات محددة تعزز التسامح والتعايش وتروج له، وتنبذ الكراهية والعنصرية والتفرقة على أساس الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو العرق.