وقبل ذلك كانت الملكة إليزابيث قد أصدرت مرسوما ملكيا في العام 2014 تعتذر فيه المملكة لهذا العالم الكبير الذي كان قد قضى منتحرا في العام 1954، عن سن قارب الإثنين وأربعين عاما، متأثرا بقضمة من تفاحة محقونة بمادة السيانيد السامة، وهو ما يشير إلى أن ستيف جوبز إنما اختار رمز التفاحة المقضومة لشركته منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، تكريما للرياضياتي تورينج.

لقد كانت وفاة ذلك العالم بسبب بلوغه درجة اكتئاب حاد لم يتمكن معها من الصبر على العيش أكثر، فتعرضه للحقن بالأستروجين من أجل إخصائه، بعدما تم اكتشاف أنه مثلي جنسيا، جعل الإنسانية تفقد مبكرا عقلا فذا، هو صاحب أول حاسوب وأول خوارزمية للذكاء الاصطناعي، وهو من حمى بريطانيا عبر آلة "إنيغما" من خطط هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، لكن مجرد وقوف بريطانيا آنذاك ضد المثلية الجنسية وتجريمها إياها قانونيا، كان كفيلا بأن يرجح كفة إدخاله في مسار عقابي أودى بحياته. وكانت نحو ستة عقود كفيلة بأن يتغير كل ذلك، تبعا لما أملته عوامل الزمان.

ثمة إذن أضرار لا حصر لها يمكن أن تنجم عن حراسة الأخلاق العامة، إذا لم تمسك الدولة العصا من الوسط، بين إرضاء ثقافة المجتمع إزاء قضايا وقيم الخير والشر كما يتمثلها مجتمع معين، في العلاقة بقوالب السلوك السائدة أو تلك الراغبة في "الانوجاد"، ومن جملة تلك الأضرار أن تصبح الدولة طرفا "أخلاقيا" في معركة الـ"مع" أو الـ"ضد"، وتتخلى عن دور حراسة التوازن الثقافي الاجتماعي، وصون التساكن بين مساحات التضاد بين ما يريده المجموع، وبين ما يريده الأفراد في مجالاتهم الخاصة، حتى وإن كان أولئك الأفراد أنفسهم هم، بصورة ما، يدافعون عن النقيض حين وجودهم ضمن الفضاء العام.

ولعل هذه المعادلة تظهر دائما في عالمنا العربي بشكل أكثر بروزا كلما تعلق الأمر بمعركة يراد للدولة أن تكون فيها طرفا، ويزايد عليها خصومها، خصوصا من حملة ما يسمى بـ"المشروع الإسلامي"، فتغدو مسألة حراسة الأخلاق العامة ومن له اليد الفضلى في الدفاع عنها، مجرد ساحة من ساحات الصراع السياسي والمزايدات التي يشتعل أوارها كلما تداخلت مع حيثيات الأخبار التي تحملها مواقع التواصل الاجتماعي عن اعتقال فتاة ظهرت في مقطع فيديو رفقة خليلها، ويزداد الموضوع تسطيحا بين مدافع، نكاية أو صدقا، عن دور الدولة في لجم النوازع الفردية التي يراها ضارة، بصرف النظر عن مدى ضلوعه هو أو وسائط التواصل الاجتماعي في تظهير تلك النوازع على السطح، وبين مغالٍ في رمي أي فعل للدولة بهذا الصدد بكل صنوف التشكيك والتخوين، فضلا عن الدعوة إلى إطلاق يد تلك النزعات.

في المغرب، على سبيل المثال، يقتات معظم الرأي الرائج على مواقع التواصل تلك على نقاش قديم/جديد، يعلق بمضمون المادة 490 من القانون الجنائي، ويتعلق بحقوق الأفراد وحرياتهم فيما يخص العلاقات الرضائية، فيطفق ذاك الجدل يمضي في المنحى المشار إليه آنفا، بينما تستمر الدولة المغربية على اعتدالها بين النص قانونيا على ما ينبغي النص عليه، والسماح للمقاربة الواقعية بأن تجد لنفسها مكانا في المعادلة، مادامت الوقائع تتأجرأ باعتدال وتتفادى أن تعلن عن نفسها بشكل نافر، يضر الوضع العام أكثر مما ينفعه، ويحرج البنيات الثقافية التي اختارت مكوناتها، ومنذ استقلال المغرب، أن توازن بين معالم التحديث ومضمرات الأصالة المغربية، عسى أن تفرج التوازنات وعلى إيقاع عوامل وفواعل الزمن عن مرغوب لا يكون ممنوعا يوما ما.

أمام كل هذا، يجادل دعاة "الحريات الفردية"، ومن موقع الاستفزاز الذي يتعرضون له من التيارات الإسلاموية، بخصوص تغيير قواعد القانون، وتاليا تثبيت وقائع اجتماعية جديدة، ظنا منهم أن الدولة متمسكة بتقاليد قانونية وفقهية بعضها موروث عن الفقه الإسلامي التقليدي، وبعض آخر عن حقبة الاستعمار، لما خشي هذا الأخير تمرد السكان وآثر الزعم بأنه الأكثر حرصا على تطبيق الشريعة، فيما كل ما تفعله الدولة هو أنها تمسك العصا من وسطها، لكي تكون للقيم المراد توطينها بيئتها الاجتماعية الحاضنة لها، ومن ثم تصنع تلك البيئة بقدر نضوج حاجاتها القوالب التي ستجعل مجرد إقرار قانون أو إلغاء بعض فصول آخرَ مسألة تقنية لا غير.

فلا ينبغي إذن أن تجني الدولة، باسم حراسة الأخلاق العامة، على حياة إنسان وحرياته، وبعد عقود قليلة تكون هذه الدول نفسها مضطرة للاعتذار لهذا الإنسان والندم على ما كان، فحتى وإن كانت حراسة الأخلاق حقا للدولة، وفيها فائدة للمجتمع بصورة ما، بقدر ما توفر تمرحلا سلسا للتاريخ وتطور الوقائع الاجتماعية، فإنها ينبغي أن تكون حراسة حكيمة، تحمي الفرد من جور ثقل الماضي الأخلاقي الموروث مجتمعيا، وتحمي المشترك العام/الجمعي من التمرد العنيف (ولو رمزيا) للفرد الذي قد يبلغ، إن تُرك على هواه، حد الإضرار بالأمن العام والاستقرار الثقافي.