لقد طرحتُ على نفسي هذا السؤال يوم جلست في حضرة صديقي القديم، الأكاديمي، المستعرب، الترجمان، نوتاهارا نواباكي، في قطر، أثناء انعقاد مؤتمر توزيع جوائز الترجمة من وإلى العربية، لفوجٍ جليلٍ من أصدقائي القدامى، الذين قاموا بنقل أعمالي إلى أمم العالم، أمثال: الألماني السويسري هارتموت فيندريخ، والإيطالية إيزابيلّا كاميرا دي أفليتّو، والأمريكيّة نانسي روبرتس، والألماني ستيفان فايدنر، والياباني نوتاهارا نفسه، الذي فوجئتُ بوجوده في الملتقى بعد انقطاع بيننا دام قرابة الربع قرن، حيث حلّ في دياري بالألب السويسري في منتصف تسعينيات القرن السالف، بعد بحثٍ طويلٍ عن شخصي الضائع بين عواصم هذا العالم، خصّيصاً لكي يروي ظمأ فضوله لالتقاء الإنسان الذي عرفه عبر أعماله الأدبية، سيّما "التبر" التي كان قد فرغ من ترجمتها إلى اليابانية، وأقبل لانتزاع توقيعي على العقد لدفعها إلى الطبع، لينال عنها تالياً جائزة اللجنة اليابانية للترجمة.

في ذلك اللقاء كان نوتاهارا شاعراً، وإلى جانب ذلك كان رومانسيّاً ككل أبناء جلدته، سيّما عندما يتعلّق الأمر بالطبيعة، فلا يفوتهم أن يحتفوا باستواء القمر بدراً، ولا يقعدهم أن يحجّوا إلى رحاب الطبيعة ليتلوا الصلوات مع كل إطلالةٍ للزهور في أشجار اللوز، ولا يُعييهم أن يروا في كل حلولٍ في حرم هذه الأمّ عيداً. ولذا لم يدهشني أن يكون نوتاهارا مفتوناً بالطبيعة السويسرية في موسم عطائها في يونيو، وفي مركز طغيانها التقليدي في منطقة "بيرنر أوبرلاند"، وتحديداً على ضفاف بحيرة "تون" حيث عاش هنري كلايست، وبرامس، وروبرت فالزر، وكل عشّاق الجمال في هذا العالم.

وكي يستكمل أوليس الحداثة هذا شروط الاستمتاع بالجمال، حمل لي معه أسطوانة لمعزوفة يابانية وجدانيّة، ظلّ يسمعها منتشياً طوال المأدبة المتواضعة التي قمت بإعدادها على شرفه، ليعبّر لي، بروحه الطفولية، كم هو سعيدٌ بالوجبة لا لشيء إلاّ لأنها من صنع الكفّ التي كتبت "التبر" و "نزيف الحجر".

هو حدَثٌ سوف يزفّه كبُشرَى لتلامذته في جامعة طوكيو، ولم يجد مفرّاً، كي يصدّقوه، من اللجوء إلى الكاميرا لدعم الحجّة بالصورة، كعادته طوال مكوثه في ربوع ربيع الريف السويسري، فلم يكتفِ بأن يتحلّى بروح الشعر وبوجدان الجمال، كما يليق بكل يابانيّ، ولكنه أبَى أيضاً إلاّ أن يكون طفلاً، كما يليق بكل حكيم.

في ربيع 1997 تجدّد لقائي مع نوتاهارا أثناء فعاليات المؤتمر العالمي المنعقد في باريس، حول أعمالي الروائية، بمبادرة من رابطة المترجمين الأوروبية، وجامعة السوربون، ومعهد العالم العربي، بحضور أكاديميين ومترجمين لأعمالي من كل القارات، ليعبّر لي عن انزعاجه من ترجمة "التبر" إلى الفرنسية، الصادرة آنذاك عن دار غاليمار للتوّ، متّهماً المترجم العربي بالجهل باللغة الفرنسية.

وهو أمرٌ لم يفاجئني، لأن التجربة علّمتني مدى استهتار المترجمين بالعمل الأدبي، وهم الذين توهّموا دوماً أن مجرّد المعرفة باللغة التي ينقلون النصّ إليها مؤهّلٌ كافٍ في عملهم، وينسون أن الإلمام باللغة لا يعوّض الجهل بثقافة اللغة، لأن القياس في إتقان الترجمة، هو رهين إتقان ثقافة اللغة، وليس الإلمام بحرف اللغة. والبلايا التي أصابت التراجم، وتسبّبت في اغتراب أعمالٍ أدبية مرجعيّة، إنّما حدثت بسبب إعتناق هذه النزعة التحريفيّة المعتمدة في عُرف هواةٍ هم، بهذه العقليّة، مجرّد حُواة.

وهو ما لم يفهمه بعض الكتّاب الفرنسيين الذين أدهشهم استيائي المكرور من سوء نقل أعمالي إلى الفرنسية، كما عبّروا مراراً في كبريات صحفهم، ولا يدرون أن هذه الشكوى ليست تشكيكاً في كفاءة المترجمين إلى الفرنسيّة وحدها، ولكنه موقفٌ مبدئي من واقع رسالة نبيلة كالترجمة، سفّهها مترجمون لأعمالي إلى لغاتٍ كثيرة أخرى، إلى جانب الفرنسية، وهي وصمة عار لا في جبين هؤلاء الحواة وحدهم، ولكنّها خطيئة دور النشر كحارسٍ مهمّته الحرص على قيمة العمل الإبداعي، التي لا وجود لها خارج جَودة الترجمة، سيّما إذا كان الحَكَم في المعادلة هو دار نشر كبرى ذات صيتٍ عالميّ في مقام دارٍ لعبتْ دوراً ثقافيّاً فروسيّاً مثل "غاليمار"، فإذا بها تستخدم هذه السمعة كشهادة براءة تعصمها من النّقد في حقّ العبث بأبجديّات عملٍ هو ليس مجرّد ترجمة، ولكنه فلسفة. ولكن أمجاد مؤسسة ثقافية كـ"غاليمار" لن تجيرها من المسئولية الأخلاقية في شأن الاستهانة بمستوى جَودة الترجمة، فكيف بالمسئولية الأدبية إزاء العبث بفحوى النصّ على نحوٍ يرتقي إلى مرتبة تزوير النصّ؟

في تلك المرّة التي تحاورنا فيها كثيراً حول هويّة أحجية وجوديّة كالصحراء، بصحبة صديقين آخرين هما الألماني فيندريخ، والأمريكي آلان روجر، طوال تواصل فعاليات المؤتمر، لم يكن نوتاهارا يدري أنه يوقظ، بملاحظته عن سوء الترجمة، أوجاع جرحٍ عميقٍ ظلّ ينزف في وجداني طوال الأمد الذي سبق تواصلنا الثاني.

فاللعنة التي أصابت "التّبر" في صيغتها الفرنسية كانت قد لحقتها في صيغتها الروسيّة منذ صدورها، لتتواصل في صيغتها الإيطاليّة منذ منتصف التسعينيات، ولم تنجُ من هذا القدَر إلاّ في صيغتها الألمانية، حتى ذلك الوقت، حيث بلغ استخفاف الترجمانة الإيطالية بعملها حدّاً لم تتردّد فيه بأن تنسب استشهاداً لجلال الدين الرومي ورد في "المثنوي"، فإذا بالإستشهاد يتحوّل لقباً للرومي نفسه، في مؤامرة لعبت فيها دار النشر دور البطولة، ولم تتم إعادة الاعتبار للرواية إلاّ في سنوات تالية، بمبادرة من دور نشرٍ إيطاليّةٍ أخرى.

أمّا في الفرنسية فلم تفلت من هذا القصاص الغيبيّ سوى روايات "المجوس" و"واو الصغرى"، و"نداء ما كان بعيداً"، و"من أنت أيّها الملاك؟" في ترجمات فيليب فيجرو. هذا في حين وقعت في فخّ العبث روايات "نزيف الحجر"، و"عشب الليل"، إلى جانب "التبر" بالطبع، لتشمل اللعنة الروايات المنقولة إلى الإنجليزيّة وعددها اثنى عشر رواية، أستثني منها "التّبر" في ترجمة إليوت كولّا، و"الشذرات" في ترجمة آلان روجر، في حين اغتربت الحصيلة الأخرى، كما اغتربت "المجوس" في الروسيّة، والمجموعات القصصية في البولنديّة، و"نذر البتول" في النرويجيّة، و"نزيف الحجر" في السويدية، أو بقيّة الأعمال في الصينيّة، أو "الشذرات" في البلغاريّة، المترجمة من وسيط هو الإنجليزيّة، وليس نقلاً من اللغة الأصليّة، ممّا يضع فنّ الترجمة في قفص الاتهام، بسببٍ بسيط هو غياب المسئوليّة الأخلاقيّة، الناجمة أصلاً عن غياب الحسّ الشعريّ الفطريّ، الذي يجعل من هؤلاء الحواة أدعياء في تطفّلهم على حرم الأدب، ولا يمتّون بصلة لجنس الأدباء، ليقترفوا جرائم في حقّ الأدب العالمي، الذي لم يكن ليستعير هذه الهويّة العالميّة لولا بطولات القلّة القليلة، التي آمنت بالحقيقة التي قضت باعتبار الإساءة في نقلٍ سيّءٍ لعملٍ مّا إلى حرم لغة أخرى، هو بمثابة استصدار لحكم الإعدام في حقّ هذا العمل، على نحوٍ يصبح فيه عدم ترجمة العمل حلّاً أفضل لحماية العمل، لأن يوماً سيأتي حتماً، يجد فيه العمل رسولاً جديراً بتولّي وزر نقل عملٍ أدبي هو بطبيعته رسالة، يبطل مفعول فحواها في حال أُسيء نقلها.

بعد أمدٍ قصير من تواصلنا بباريس، استلمت من نوتاهارا كتابين أنيقين، في طبعتين فاخرتين، مجلّدَتين بغلافين مزدوجَين، إحداهما "التبر" باليابانيّة، والثاني كتابه عن أعمالي، لتكون تلك اللقية أوّل كتابٍ يصدر عن أعمالي بلغةٍ أجنبيّة.

ثمّ انقطع الاتصال مع هذا الحالم الرومانسي أمداً استغرق أكثر من عقدين، بفعل فراري الأبديّ من واقعٍ وجيعٍ هو العالم، كما توهّمت يوماً، قبل أن أكتشف تالياً أنه فرارٌ من الحضور في نفسي، ترياقه، الوحيد في أن أضيّع نفسي، ليضيع في حضرة الأصدقاء أثري، بسبب استبدال العناوين، الناجم عن استبدال الأوطان، إلى أن انتصب في وجهي إنسانٌ أنكرتُه، عندما وقفتُ في بهو ندوة قطر، في أحد أيام نوفمبر 2018، محاطاً بلفيف المترجمين القدامى، لأتبيّن في ملامح هذا الإنسان سيماء الطينة اليابانية، لأتيقّن بهويّة الشاعر الياباني، الذي تغنّى يوماً بعشق الصحراء، فحجّ إلى رحابها في سوريا ومصر، وحاول أن يحجّ إلى امتدادها الغربي في صيغتها الكبرى، ولكن خذله الحصار الدولي المفروض على بوّابتها ليبيا آنذاك.

إنه أوليس الياباني نفسه، الذي سعدت بحضوره في عالمي السويسري الضائع، ليغترب من دنياي طوال إحدى وعشرين عاماً، مستقطعةً من عمرٍ أقصر من أن يحتمل استقطاعا، سيّما إذا تمادى الاستقطاع ليسلخ من مهلة الوجود المحدودة الصلاحية، ليقضم منها نصيباً سخيّاً تخطّى عتبة العشرين عاماً. ولا أحسب وجود سعادة يمكن أن تُقارَن بسعادة الحضور في حضرة الصديق، فإذا كان الحضور هو استعادة لصديق اغتنمه الضياع طويلاً، فلا ريب في أنها سعادة مرتين.

نال الزمن من سيماء نوتاهارا، ولكنه لم ينل من روح نوتاهارا، وها هو يفيض بحيويّة الطفولة، بعفويّة الطفولة، بمرح الطفولة، بحكمة الطفولة، التي سحرتني في واقع أُمّتي الصحراوية، التي ألفتُها في أشياخ القبائل، فتشعّ في مسلكهم إشعاعاً، احترفت استجلاء حجّته دوماً، إلى أن اكتشفت أخيراً أنه الترجمان الأمين لمعجزة اسمها: الحرية!

إنها الهبة السماوية التي تجعل من الإنسان شيخاً في مرحلة الطفولة، كما تجعل من الشيخ طفلاً في مرحلة الشيخوخة، لأنهما ينهلان من ينبوع الحكمة الإلهيّة، المسكونة بالحقيقة، التي إذا عرفها المريد في الصباح، لن يضيره أن يذهب في المساء ليموت، كما تقول الوصيّة الطاوية.

في المساء أقبل المريد بصحبة إحدى تلميذاته المستعربة أيضاً، لنتحاور حول مائدة العشاء. في تلك الجلسة حدّثني نوتاهارا، بروح الساموراي، عن نيّته في زيارة الحرم الذي كان قِبلة مِلّة اليابانيين منذ الأزل وهو: الموت!

قال إنه  فُجع بغياب زوجته منذ أمد، وخلّفت في وجوده فراغاً لا ترياق له إلاّ بالالتحاق بها. ولهذا السبب اعتمد مُخطّطاً مُبتكراً، يختلف عن الطريقة التقليدية السارية في الحقبة الفروسيّة، وهو تفتيت الكبد على نحوٍ بطيء، بإدمان الكحول عبر مهلةٍ تستغرق، حسب تقديره، سبعة أعوام بالضبط، يتحقق بموجبها الخلاص!

سرد السيرة ببساطة شديدة، بلغة لم تخلُ من مرحٍ مشفوعٍ بسخرية، ولكن بمنطقٍ مسكونٍ بيقينٍ أمات الحجّة في لساني، لأن كل شيء قابلٍ لأن يكون موضوع جدل، باستثناء وضعِ إنسانٍ صارحك بخطّته في الفوز بحلم الحرية في بُعدها الأقصى.

 الاحتكام إلى خطاب العزاء؟

العزاء في حرم الموت سيبدو ابتذالاً!

حَثُّه على التراجع؟

الوصايا من هذا القبيل ستبدو نفاقاً في عُرف إنسان يسكن بُعد البرزخ.

أم خيار الاحتكام إلى الحكمة التي تدعونا لاعتماد الحياد إزاء بعبع الموت، فلا نخافه فنفرّ منه بأيّ ثمن، كما لا يجب أن نستسلم لإغوائه فنطلبه؟

هذا أيضاً تجديفٌ في حقّ حريّة الإرادة، المخوّلة وحدها بتقرير المصير، سيّما في وضع الإنسان الذي غسل يديه من منطق واقعنا، بحكم حضوره في البرزخ، فلا يملك إلاّ أن يسخر من أحكامنا الأرضيّة التي تبدو من موقعه في البُعد المفقود، مثيرة للشفقة، لأنه منذ الآن على دين حكيم الهندوس الذي سأله الإسكندر الأكبر: "متى على الإنسان أن يموت؟" فأجاب: "فقط عندما لا يريد بعد أن يعيش"، ومأساة الموقف من خيار نموذج نوتاهارا هو أنه لم يعد يريد أن يعيش، وهو الذي قطع شوطاً في الطريق نحو تخوم الحرية القصوى. وكان من الطبيعي أن أعجز عن تعزيته، لأنه الوحيد الذي لم يعد في حاجةٍ لتعزية، كما لم يعد في حاجةٍ لأن أستفهم عن أحوالٍ دنيويّةٍ لم يعد معنيّاً بها، أو أستفسر عن عافيةٍ رهنها عامداً في مزاد ورومٍ يفترس فيها عضواً سخّره مطيّةً تسري به نحو الحرية ببطء، ولكن بثقة، حتى إذا انقضى الأجل، تنفّس الصعداء، لأنه أفلح في أن يُقلع عن أفيون الظمأ إلى الخلود، وليس له أن يخشى بعدها أيّ شيء، لأنه بالتحرّر من الحسّ، هو معصومٌ من كل شيء، بما في ذلك العصمة من.. الموت! لأننا بالموت فقط نحن معصومون من الموت!

فالمُريد، بالحُلمِ، بطلٌ، لأنه هويّة حرية. ولكنه، بالواقع، بطلُ باطلٍ، لأنه رهين الضرورة. وزحفه التراجيدي نحو منزلة الصفر دقٌّ للمسمار في نعش الضرورة، لاستعادة الحضور في البُعد المفقود، الحضور في الفردوس المفقود، لأنه منذ الآن هو غنيمة حرية.