مقابل ذلك الرقم الهائل، لا تدل أرقام العوائد المالية لهذه المسلسلات على وفرة مالية واضحة، فحسبما ذكر تقرير تحقيقي ألماني حول الموضوع، فإن مجموع المسلسلات التاريخية التركية خلال العام المنصرم لم تحقق عوائد ربحية تتجاوز 15 مليون دولار، في كامل منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك تركيا نفسها.

ويمثل هذا الرقم خاسرة مالية كاملة للمنتجين المنخرطين في هذه الصناعة، التي تتطلب مبالغ هائلة جدا، من حيث أجور الممثلين النجوم وتصميم المدن والقاعات الفخمة ومشاهد الجيوش والأزياء والمؤثرات وأدوات التصوير الخاصة...الخ.

يعني الأمر بأنه ثمة جهات سياسية دعائية، تدعم وتساند إنتاج وترويج هذه المسلسلات التاريخية التركية، التي تحمل مضامين ومحتويات سياسية خاصة، مناسبة إيديولوجيا وسياسيا للجهات المروّجة لها.

تصاعدت صناعة الدراما التاريخية التركية خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث نشطت فجأة عشرات المؤسسات الإنتاجية التي أنفقت أموالا طائلة على تلك المغامرة الإنتاجية ماليا.

ترافق ذلك مع تحوّل رئيسي في بنية الحياة السياسية التركية، حينما انقلب الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان من سياسي إصلاحي إلى التطلع لشغل مكانة "الزعيم الإمبراطوري"، الشبيه إيديولوجيا وسلوكيا وروحيا ببعض النماذج الذين أفرزتهم أحداث وخصائص القرن المنصرم.

يصعب إثبات علاقة أردوغان والحلقة العائلية والحزبية الصغيرة المحيطة به بتلك المؤسسات الإنتاجية، وذلك لغياب آليات الرقبة والتحقيقات الإعلامية الاستقصائية التي يمكن إجراؤها في نظام سياسي لا يتمتع بالشفافية.

ذلك التناغم بين الطرفين، إنما كان دلالة واضحة على أن تلك المؤسسات تحصل على تعويضات مالية مناسبة من السلطة الحاكمة، جراء عدم ربحها المالي في الإنتاج الدرامي، وتاليا أن النظام السياسي التركي الحاكم هو المنتج والمروج العملي لتلك الصناعة الدرامية.

أربعة مضامين سياسية داخلية، كانت تلك المسلسلات التاريخية التركية محملة بها على الدوام، كانت توافق نزعات أردوغان السياسية، كشخصية وممثل لتيار الإسلام السياسي الإخواني، الحامل لكل أوهام الإرث الإمبراطوري.

فتلك المسلسلات كان تتمركز دوما حول شخصية "قائد تاريخي"، مُحاط بهالة من الصلاح والتقوى والإقدام والعدل، شيء يشبه الدعاية السياسية التي ينشرها أردوغان حول نفسه، ويحاول أن يروج بأن يمثل تيارا تاريخيا في منطقتنا.

كذلك فإن هذه المسلسلات محملة زيفا بنزاعات الهوية المطلقة، التي تصور التاريخ كصراع مطلق بين العالم الإسلامي ونظيره الغربي، هذه المقولة التي أثبتت زيفها تاريخيا، حيث كان الإمبراطوريات الإسلامية ذات هوية قومية وعائلية، ودخلت في مراحل مختلفة لعلاقتها مع العالم الغربي، كانت في أغلب أوقاتها ذات تحالفات متينة معها، وتخوض حروبا ضد المسلمين أنفسهم، لكن ترويج ذلك النوع من الصراع، يناسب الخطاب السياسي الإخواني لأردوغان.

فوق الأمرين، فإن تلك المسلسلات كانت تروج وتنشر صور نمطية للغاية عن الثقافات المحلية لسكان منطقتنا، كمجتمعات ذكورية ومحافظة وعنيفة، تملك مواقف وسلوكيات غير حميدة تجاه العلاقات، حيث في كل ذلك الطيف تظهر النساء كـ "شريرات" ومكايدات"، تفتقدن للحس الأخلاقي والجدارة العقلية، وهو خطاب مطابق لتيار سياسي مثل العدالة والتنمية.

أخيرا، فإن تلك المسلسلات كانت تروج لفكرة تاريخية تقول بأن العالم الإسلامي كان قويا وفاعلا حينما كان تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، أي أنها كانت تطالب فعليا بأن تتخذ دول العالم الإسلامي من تركيا و"زعامة" أردوغان قيادة إقليمية شاملة لهم، وأن يخضعوا لها ويتخلوا عن مصالحهم الذاتية.

تقول تلك المسلسلات ذلك، ليتناسى مئات الملايين من المشاهدين التاريخ الموضوعي للإمبراطورية العثمانية، كقوة احتلال تركية لمختلف مناطق العالم الإسلامي، نفذت المجازر والتجويع والهيمنة على تلك المناطق، لتكريس الجهل والعنف، وعدم تحديثها لأية ديناميكيات حياتية، لا سياسية ولا اقتصادية ولا معرفية.