إلى مريد حقيقةٍ استطاع أن يعرف نفسه:
في واقع الزمن الضائع، تحديداً في القرن الثالث قبل الميلاد، الذي كان فيه الرجال مازالوا يتباهون فيه بالبطولات، لا بامتلاك الثروات، ويتبارون فيه بترويض الروح على الموت، لا بقدرات العضلات، عاش في أرباع القارّة الليبية، إنسان أسطوري، ورثناه في حوليات الرومان باسم "مسّينسّا".
استطاع هذا الإنسان أن يقمع في نفسه إغواء المخلوق الفاني إلى الترف، ليبعث الروح في أمّة أدمنت الترحال، تلبيةً لنداء حرية عدميّة، ليستدرجها إلى واقع المكان، لكي تقول كلمتها، وتترك بصمتها في الأثر، أسوةً ببقيّة الأمم.
ويبدو أن التجربة لم تكن لتستقيم بدون قرابين، كما تشهد بذلك الذخيرة الخبيئة في مدلول الاسم، لأن "مسّينسّا" بُنية مركّبة من كلمات، مترجمة في سواكن، معناها مازال يسكن لغة أخلاف أمّة مسّينسّا، وهم طوارق اليوم، لنحصل في الاسم على خطابٍ تتغنَّى فيه الميم بفحوى الطبيعة، كما في المصرية القديمة، لأن الميم إذا استنزلنا في حقّها حروفاً صائتةً دلّت على الأمومة (أُمّ)، وما هي الأمّ إن لم تكن الطبيعة التي أنجبت من رحمها كل الطبائع؟
فإذا قلبنا الآية، واستنزلنا النبرة الصوتيّة بعد الحرف الساكن، حصلنا على دلالة أخرى ليست أقلّ شأناً من الأمومة، هي: ماء. هذا اللغز الذي أبدع وجودنا، وبثّ فينا روح الحياة، في واقعٍ "كانت فيه الأرض خربةً وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه" (التكوين: 2ـ1).
فبزواج مبدأ الأمومة مع مبدأ الغمر الأوّل، من الطبيعي أن تتوِّجَ الميم نفسها ربّة على عرش الوجود في بُعده الحرفيّ. فإذا استقدمنا إلى الساحة حرف السّين، الدالّ على الإمتلاء، أو الإحتواء، اغتنمنا مصطلحاً دالاً على: الولاية، أو سلطة السيادة على واقع وجوديّ مّا، لن نخطيء عندما نترجمها في كلمة شائعة، للتدليل على الهيمنة، هي: مولاي!
فالطبيعة المائية، في حلفها مع مبدأ الطبيعة الأموميّة، تستعير على الوجود سلطةً، في حال نالت تفويضاً من قطب السين، بما هي فحوى، بما هي ذخيرة، بما هي امتلاء. من هنا نال تركيب "موسى" حظوة الإنتماء إلى حرم القداسة، ليغدو جديراً بأن يتنكّبه الأنبياء.
أمّا حرف النون في بُنية "مسّينسّا" فهي حرفٌ دالٌّ على ملكيّة تربط العلاقة بين مضاف ومضاف إليه، لتعبّر في العربية عن الـ "ذو"، لتأتي السين الثانية في التركيب، الدالّة على منطوق الرقم السابع في حساب العدد بلغة القوم. ويبدو أن حرف السين لم يحصل على هويّته السحريّة في لغات العالم إلاّ لمدلوله على هذه الماهيّة الغيبيّة التي تسكن كيان الإمتلاء.
ففي ميثولوجيات العالم القديم يفاخر الرقم السابع باحتوائه على العقدة التي تختزل أبعاداً كونيّة، ليكون هذا الرقم حكراً، في ديانة قدماء الليبيين على معبودتهم "تانّيت"، كما نصّبه اليونانيون أيضاً رمزاً للربّة "أثينا" التي يقول هيرودوت أنها ليست سوى أحد تجلّيات المعبودة الليبية "تانّيت" نفسها.
وعلّ سحريّة الرقم السابع تكمن في عبقرية المدلول حيثما حلّت. فعندما ترد في SANT اللاتينيّة الدالّة على القداسة فإنّما تستعير دلالة تسكن لغة البدايات التي نعتمدها شفرة لتحرير المعاني المغتربة التي تتردّد في لغات العالم دون فهم حقيقتها الأصليّة. فكلمة SANT، بتجريدها من تاء التأنيث، هي SAN الدالّة على المعرفة في لسان التكوين، لأنها تعني حرفياً "المسكون بالألوهة"، لأن النون في التركيب هي دلالة على حضور الربوبية، مثلها مثل حرف الراء، أو اللام، أي ذلك الثالوث المقدّس الذي قال إبن منظور أنه بمثابة حرف ساكن واحد، وبرهنت اللغة البدئية على وحدتهم بالفعل، بدليل أن استبدال سواكن هذا الثالوث المقدّس لا يؤثّر في فحوى الكلمة الدلالية، فهم يتعاقبون ويتبادلون الأدوار بحريّة، دون أن يفقدوا سلطتهم في التأكيد على هوية المدلول الواحد، ذي الروح القدسية.
وعندما توحي هذه اللغة بحقيقة المعنى، الأبعد منالاً من مجرد الإحاطة، أو العلم بالشيء، في كلمة SAN، بعد استبعاد تاء التأنيث، فإنّما تريد أن تلقّننا درساً يقول أن لا وجود لمعرفة حقاً بدون معرفة الله، أو المعرفة المجبولة بروح الألوهة.
من هذا المصدر انبثقت كلمة خطيرة أخرى، حاملة لذخيرة لا تقلّ خطورة هي: إنسان، المتكتّمة على رسالة تقول: ذو العرفان، ذو الحمولة الإلهيّة، كناية عن هذا الحيوان الذي لم تكن الأسطورة لتنزّهه عن واقع الحيوانية في اللغز الشهير، لو لم يحتفظ عميقاً بامتلاءٍ هو تعويذة مشفوعة بروح الله، حصّنته من الطينة الحيوانية، لينال شرف الإنتماء إلى الماهيّة الإلهيّة بالمعرفة، التي لم تضمن له الخلاص من قصاص كالموت ثمناً لهذه الخطيئة.
هذه السين، الحاملة لذخيرة السابوع المقدّس في ناموس الأعداد، والدّالّة على قدسيّة أية معرفة، هي التي اعتنقها عرّاب الوطن البرّي، بوصفه الأبّ المؤسّس، ليتقلّد إسم "مولاي" تعبيراً عن سلطته على واقع دنيوي، ورثه عن السلف في الجيل الٍسابع، بمفهوم العدد ليكتمل النّصاب في عبارة "مولاي السابع" كترجمة للإسم المهيب من لسان قومٍ اعتنقوا الترحال ديناً، ليجدوا ركبهم يوماً قد حطّ الرحال على شطآن الشمال، ليكوّنوا النواة لإمبراطوريّةٍ مجيدةٍ باسم "نوميديا"، بفضل حكمة هذا الدليل، المنتمي إلى حقبة الجيل السابع في حوليّات تاريخ أمّة ما قبل التاريخ، عندما شاءت الأقدار أن تكتب لها بعثاً من شتاتٍ إستغرق، بمنطق الزمن، أجيالاً، عاشت فيها السلالة الأطلنتيّة إغتراباً دراميّاً، منذ مطلع منفاها العظيم، الذي أقصاها يوماً من رحاب فردوسها الفاني، عقب البليّة التي حاقت بمسقط رأسها في رحاب المحيط، لتتنقّل في منازل، صارت لها أوطاناً طوال فرارها نحو الشرق.
ولمّا كان جناب الحجر هو الشهادة التي لعبت دور البطولة في سفر كل تكوين، فقد تفضّل "حجر مسّينسّا" بسرد فصولٍ نفيسة من سيرة أمّة التّيه، في طور ميلادها الثاني، في مقامها التالي، لأن احتراف الهجرة هو ما دعا الدهاة لأن يستنزلوا في حقّ هذا الشتات الأبديّ إسم الـ NOMAD، لكي يكون للقوم هويةً وجوديةً، كما اعتمده الرومان في اللاتينية، دون أن يدروا مدلوله الحقيقي في لغة التكوين، الذي يقول حرفيّاً "سلالة العيد"، لأن الرحيل، في منطق نواة التكوين الأطلنتيّة، هو في الواقع عيدٌ. عيدٌ قائمٌ. عيدٌ دائمٌ. عيدٌ محمولٌ على المنكبين، بما هو حلم حرية لا وجود حرفيّ له إلاّ في هذه الصلاة الموصولة، القابلة لأن يحملها معه كل من خاطر بوجوده الحرفيّ الرهين لواقع المكان، فتنكّر لغلّ الأسر، تلبيةً لنداء الوجود الروحيّ. فكما أسعفَنا "حجر رشيد" بكنز الكنوز الذي سكن لغة منسيّة، إغتربت عن عالمنا لألوف الأعوام، كالمصريّة القديمة، بعبقريّة مريد حقيقة في مقام شامبليون، كذلك أفلح اكتشاف "حجر مسّينسّا" في إماطة اللثام عن فصولٍ مجهولةٍ من ملحمة أمّة اللثام.
فالنّوميديّون هم، في منطق القوم، المحتفون. المحتفون بمناسبة ليست مستعارة من خارج واقعهم، ولكنها نابعة من حقيقتهم، من ممارستهم، من إفيونٍ إختاروه حرفاً في أبجديّة تجربتهم، ليدمنوهُ ديناً في مسيرتهم، لأنه منذ الآن حقّ له أن يتحوّل طبيعةً في مسلكهم، بوصفه طينة معدنهم. فهم، من دون الأمم قاطبة، عيدٌ لأنفسهم!
وليس لنا أن نتوقّع أن يخبرنا الحجر بوصايا تضيق بها طبيعة الحجر. فالصّلد إذا كان وسيطاً أميناً في إيصال بلاغه، فهو، بالمقابل، بخيلٌ في عطائه. ولكن ما يعوّض رذيلة كالبخل، هو الثروة السخيّة التي تسكن كل مفردة ترد في مثل هذه الألواح النبويّة المخوّلة بنقل وصايا رسالية لأجيال الخلف.
فعندما يتحفنا هذا الحكيم التّقي بمفردة كـ "أماغداه" في حجره المجيد، فليس لنا إلاّ أن نتوقّف لنستطلع حقيقة ماضٍ تليدٍ يرجع إلى الألفي والثلاثمائة سنة، لنكتشف كم هو تجديفٌ في حقّ الحقّ أن نستنزل وصمة، إعتدنا أن نجود بها جزافاً، كالوثنية، في حقّ أمم السلف لمجرّد أنهم لم يتبنّوا الحرف في علاقتهم بعروةٍ وثقى كالإيمان.
فكلمة "أماغداه" تعني في الترجمة إلى الليبية القديمة: الكافي. وهو الدلالة التي مازالت سارية في لغة أخلافهم طوارق الصحراء الكبرى للتدليل على: الربّ. والمثير للفضول حقّاً أن تتبنّى الديانة الإسلاميّة هذا المفهوم الرائع للربوبية حرفياً لتنصّبه أحد أعمدة أسماء الله الحسنى. فـ الكافي، هو ريفٌ في المفهوم، لـ العاطي، لـ الوهّاب، إمتناناً من إنسان التكوين للمبدأ العظيم الذي يجود على خلقه بالهبات السخيّة مجّاناً! لأن منطق المجّان هذا هو ما لا يعترف به ناموس الطبيعة، وتستنكره سجيّة كل الأشياء في الواقع الدنيوي، حيث يهيمن عرف الصفقة في النشاط الإنساني كلّه، باستثناء غنيمة واحدة هي: الموت.
فكيف نجرؤ على أن نطلق حكماً قبيحاً كالوثنية في حقّ أناسٍ لم يتردّدوا في أن يختلقوا إسماً حميماً في شعريّته، وعميقاً في مدلوله، وحاسماً في التعبير عن امتنانه، كـ الكافي، الذي أغدق علينا من ثرواته ما يعجزنا عن حمد إحسانه؟
هل يُعقل أن يتغنّى مخلوق حديث العهد بالهمجيّة، كما يروقنا أن نصف أهل البريّة لمجرّد تشبّثهم بتلابيب الطبيعة الأمّ، بمبدأ لا حضور له في عالم الحسّ كالربوبيّة، على هذا النحو الحيويّ، الحميميّ، الغنائيّ، لولا عمق الإيمان بوجوده الفعليّ، الناتج عن طغيان الوعي الحدسيّ، القرين لأي تقوى دينيّة؟
ولكن إسم الكافي، في لغة حقّ لها أن تستعير هويّة لغة التكوين، ليس وحده اللقب المستعار من مستودع هذا اللسان الملهم، لتتبنّاه الديانات التالية، كالإسلام، في محفل أسماء الربوبية الحسنى، ولكن الدلالة التي كشفت عنها الترجمة أيضاً. فالكافي في العربية استحضارٌ من مبدأ الكفاية، أو الإستغناء، الذي يجيرنا من أشراك دنيا وُجدت لتوقع بنا بفنون الإغواء، فنجتنب بفضلها الزلل.
أي أن العطيّة هنا سببٌ لتَقيّة. ومبدأ السببيّة هنا هو ما يستوقفنا لنستجوب الأرومة في كلمة "كفاية" في صيغتها العربية. ذلك أن الإستكفاء هنا هو نتيجة، مجرّد نتيجة، لمصدر تدلّ عليه الكلمة في اللغة الليبية القديمة، الجارية في لسان الأخلاف، في "يكفا"، التي تعني يعطي، يهب، يجود بالعطاء. أي أن العطاء هنا يلعب دور السبب في صفقة الإستكفاء؛ لأن المفهوم في مبدأ الكفاية ليس أن يغنينا، ولكن أن يكفينا شرّ الحاجة إلى حوائج، هي في منطق الدنيا، فخاخٌ تقود إلى انحرافٍ هو تجديفٌ في حقّ الكافي، بما هو إثمٌ في عُرف الإنسان الدَّيِّن. فما يعني لغة التكوين ليس النتيجة التي تعتمدها اللغات المنبثقة عنها كفحوى دلالية، ولكن لغة اللاهوت هذه تراهن على السبب في منطق الكلمة، لتسوّقه في السيرة كبرهان.
وصيّة الحجر الخالد لم تسبح في فلكٍ خارج الواقع الدنيوي، عندما أتحفتنا بالمفهوم الربوبيّ السالف، الثريّ بالدلالات، ولكنها أوردت إسماً آخر، كان حرفياً في واقعيّته، ولكنه مثير في مفهومه التقني، لأن هذه الماهية التقنية تستّرت على دلالة خفيّة، لا تلبث أن تستقيم في مفهومٍ روحيٍّ في حال استنطقناها كما ينبغي. فعندما ترد في نصّ الحجر كلمة "أماكسال" فإنها تؤدّي وظيفة عملية في الحياة اليومية، من خلال إنسانٍ يقوم بدور تشييد أبنية العمران، وكل ما يمتّ بصلة لهذا العمل، الرديف، في الترجمة، لمهمّة المسّاح، في العربية. وهي مستعارة من فعل "يكسل" المستخدم في لسان أخلاف الليبيين القدماء طوارق اليوم، للتدليل، من خلال عمليات المسح هذه، على نشاطٍ أعظم شأناً من مجرد تشييد أبنية العمران في المدن.
فالمسّاح (أماكسال) قبل كل شيء صانع. مبدع، مادام يخطّط لإقامة هيكل. هيكلٌ هو نواةٌ لكونٍ كامل، قابلٍ لاستحضار أقوامٍ تسرح في الفيافي، للإيقاع بها في معتقلٍ مطوّقٍ بالأسوار، ولكن ليس قبل أن يحكم الشَّرَك ـ النواة، التي لن تكون سوى: المعبد!
فالمعبد هو حجر الأساس في أي إبداع عمراني، وعلى عاتق هذا المُبدع وحده يقع وزر تنفيذ المشروع، المعادل في المعتقد، للإبداع الخالد في تشييد واقع الخليقة. ولهذا السبب نحطّ من قدر هذا الصانع الماهر عندما نكتفي بأن ننعته بـ المسّاح، ولا نكفيه حقّه أيضاً، عندما نناديه بـ المهندس؛ لأن ما يجب أن نفعله هو أن نستعين بالترجمان لكي يستطلع لنا ما تعنيه هذه الكلمة الأعجمية في السنسكريتيّة، وما توَلّد عنها من لغات مثل البنغالية والهندوسيّة وغيرها، إذا شئنا أن نكتشف أنها في الترجمة تعني: الحكيم، وهو أحد أسماء الله الحسنى أيضاً.
فالمهندس، في التعريب، يعني الحكيم، ولكن الحكيم، في الترجمة من لغة التكوين، كنزٌ يخفي مفاجأة تقول: "بيت الألم"، لأنه بُنية مركّبة من الهاء الدالّة على "البيت"، و"كم" الدالّة على الوجع، أو الإيلام، كناية عن هوية لم يحدث أن استقامت لمخلوقٍ يوماً دون دفع مكوس جسيمة، لكي يكون جديراً بحمل صليب خلود في حجم: الحكمة!
من "كمّ" إستعارت العربية فعل "كمّمَ"، للبرهنة على قدرة الغصْب على إحداث ذلك القمع الحسّي: كـ العصْب، أو العَصْر، ليكون دليلاً معبّراً عن تلك اللُّقية التي تولد من قران الرعود، مع البروق، مع فصل الخريف، لتنتج ما أطلقت عليه الروح الشعرية نعت "بصقة الساحرات"، كناية عن فاكهة غيبيّة أنجبها مخاضٌ محشورٌ في قبر التربة كما: الكمأ!
فالعصْب، أو العصر، أو الحصر، أو التضييق، كلها مترادفات للتعبير عن إلحاق الألم بجرمٍ مّا، أو مبدأ مّا، وما الحكمة سوى النموذج في ملحمة الأبعاد القصوى، المخوّلة بإنتاج فاكهة عصيّة كالنبوءة: الكمأ نبوءة الأرض، لأنها عطيّة بلا بذور، بلا جذور، بلا نبوت، بلا عروق، كل مؤهلاتها قمقم الألم؛ كذلك النبوءة كمأة الغيوب، لأنها صنيع غصص، صنيع اختناق، صنيع تضييق، صنيع كتم أنفاس، صنيع قبضة ألم!
بهذا الجنس من الآلام إستطاع "مولانا السابع" أي، "مسّينسّا"، أن يحقق حكمته التي مكّنته يوماً من استعادة عرش "نوميديا"، المغتصبة من قبل القرطاجنّيين، ليحقق لها مجداً، برغم وقفته البطولية معهم في حربهم الأولى ضدّ الإمبراطورية الرومانية. ولكن غدرهم به، وقيامهم بتنصيب عميلهم "سيفاو" على عرش دولته بديلاً له "وهو المعروف في المصادر اللاتينية بـ سيفاكس)، أجبره على تغيير موقفه أيضاً، ليغدو حليفاً للرومان في الحرب البونيقية الثانية، حيث قاتل في صفوفهم لقمع الإنتفاضات المحلية في إسبانيا، ليختاره القائد الأسطوري "سكيبو الإفريقي" ساعداً أيمن له طوال تولّيه شئون إيبيريا، بفضل دوره البطولي، ومزاياه الأخلاقية الرواقيّة، التي كانت في عرف الرومان مقياساً للعلاقة الإنسانية، سيّما إذا تعلّق الأمر بفضيلة كالتقوى.
وها هو شيشرون يروي في كتابه "محاورات حول الدولة" كيف قام خلَف "سكيبو" الأسطوري بزيارة إلى مسّينسّا في رحاب مملكته بعد مرور أعوام كثيرة على هزيمة قرطاجة، وهيمنة السلام في ربوع نوميديا، ليستقبله الملك بحفاوة تليق بسليل صديقه القديم الذي كان قد غاب عن واقع الدنيا آنذاك، في وقتٍ ناهز فيه مسّينسّا المائة وعشرة أعوام، أي ذلك الرقم السحري الذي نصّبه أسلافه قياساً للعمر المثالي، إسوةً بقدماء المصريين، لأن ما سبق المائة حرمانٌ قبل الأوان، وما لحق المائة والعشر اغترابٌ بمشيئة النسيان.
وبرغم ذلك لم تقعده الأعوام عن ممارسة طقوس العبادة، المصاحبة لكل مراسم حفاوة، مفتتحاً الصلاة بتلاوة تمائم الإمتنان، في وقفة الخشوع، ميمّماً صوب معبود الأجيال "هرو"، الذي لم يكن كوكبٌ كالشمس سوى أحد تجلّياته، ليتبنّاه فريق الدياسبورا الأطلنتيّة الذي عبر الصحراء ليشيّد معابده على ضفاف النيل، كربّ أربابٍ في محفل التاسوع، وما "رغ" أو "رع" التي شفّرها علماء المصريات بالعين، سوى تحويرٌ لإسمه، لأن الغين والواو تتعاقبان في اللغتين البدئيّتين المصرية والليبية، ليغدو الإسم "رو" الدالّة على القدمة، والهاء تعني "بيت" في اللغتين، ليصير "هرو" برهاناً على "بيت الأبديّة"، لتستعير اللغات إسم ORO الدال على الذهب من "رو" كمصدر لإسم الإله، لا لانتماء هذا المعدن لطينة الشمس كمستودع للهباء في الشعاع الأصفر وحسب، ولكن بسبب طبيعة الذهب المُنتَج بحرف معجزةٍ هي القدمة، لأن سرّ خلوده إنّما هو لغزٌ مستعارٌ من سرّ أزليّته.
فمن مبدأ القدمة، كصيغة أزلية ميثولوجية للزمن في البُعد المفقود، إستحضر الذهب قيمته الروحية، التي تغنّى بها أفلاطون، ونصّبها للأجيال كبديل للقيمة الحرفية، المعدنية، لهذا المعدن الماكر، ليحصل بها على تفويضٍ لعب دور الإغواء في تسويق الخطيئة. فما يليق أن نحاجج به هو صيغة الذهب التي تسكننا، لأنها حُجّة في سيرة الجنين الغيبيّ، الذي يترنّم الحكيم بسلطته على سيرورة وجودنا، لأن اغترابه عن طبيعته الحرفية هو ما يجب أن نراهن عليه، فلا يتنكّر لماهيّته الأرضيّة، ليستعيد خصالاً ألوهية، إلاّ في حمّى تدخّل جراحي يفوق في المفعول جحيم أفران الحدّادين!
والواقع أن الإلتباس رهين ازدواجية المفهوم، الناجم عن طبيعة الدلالة في كوكبٍ هو مظهر، بقدر ما هو جوهر، في عقلية إنسان التكوين، في مرحلة عراكه مع وجودٍ بكرٍ لن يستقيم كحضورٍ ما لم يولد في المفهوم، بانتزاع الدلالة المجرّدة، من واقع التجربة الحسيّة.
من هنا استوقفت الشمس شروطاً تجمع بين القدم في الزمن، أي على ترخيص الأزل، للحصول على شهادة أبدٍ بسبب انتمائها، في اللون، بالمعدن الوحيد المعصوم من الفساد، لأن التجربة برهنت كم هو منزّه عن الصدأ من دون كل المعادن الأخرى، حتى أنه لم يتحوّل معبوداً إلاّ لهذا السبب. ولهذا استحقّ أن ينال الكلمة ذاتها (رو ـ هرو) الدالّة على القِدمة من ناحية (وهي صفة ربوبية أيضاً)، وعلى الحصانة من الفناء من ناحية أخرى، وهي خصلة ربوبية بالطبع، برغم أنها أرضيّة، في حال استنزلناها من رحاب المثال المنزَّه، إلى حضيض الدنيا، وعاملناها كعملة لتصريف شئون الباطل الدنيوي. فالذّهب، عندما يغترب عن سجيّته كطبيعة، يتحرر ليستعير بُعداً غيبيّاً إعتدنا أن نسمّيه روحاً، فاستحقّ أن ينال منّا مراسم إكبار تستنزل فيه خصال المعبود.
بهذه العقلية عامل سلف الدياسبورا الأطلنتيّة هذه الأعجوبة التي ننعتها بإسم الشمس، كما نرثها عن أفلاطون، الذي ورثها عن سلفه صولون، الذي ورثها أيضاً عن كهنة مصر القديمة، الذين ورثوها بدورهم عن وصايا المعابد، التي تروي سيرة القارّة الضائعة، قبل أن تضيع بفعل لعنة الطبيعة التي شتّتت شمل القبيلة البدئية الرائدة، واقتلعتها من مسقط الرأس في قلب المحيط، لتفيض على اليابسة في دياسبورا ميثولوجية نالت منها الصحراء الكبرى نصيباً سخيّاً قبل أن يعبر فريق آخر إلى الشرق ليبتني على ضفاف النيل كياناً مستلهماً من الأصل الفاني، ليدرك شقٌّ آخر أرض السند، وشظية ثالثة تنزل جزيرة "دلمون" لتعبر من هناك إلى يبيس ما بين النهرين، لتولَد من رحمها أسطورة سومر، في معزوفة وجودية ملحمية ملحونة بوجدان التكوين، حدّد لها كهنة مصر تسعة آلاف عام من تاريخ سرد سيرتها لإمام الحكماء السبعة "صولون" في القرن السادس قبل الميلاد، لتكون حصيلة الزمن الفاني الذي انقضى منذ وقوع الكارثة البيئيّة إحدى عشر ألف سنة وخمسمائة عام تقريباً.
ولكن شظايا الشتات في الدياسبورا الكبرى بقي على وفائه للمعبود: المعبود في بُعدَيه، سواء الطبيعي، الواهب للحياة على اليابسة، سواءٌ الكافي، لأن الإيمان به كمعبودٍ وحده ضمانٌ كافٍ لتحقيق غنيمة عظمى كالكفاية، مما يقلب المعادلة باستعارة المبدأ الطبيعي لخصال المبدأ الغيبيّ، المسكون باليقين في بُعد الحرية؛ أي المجال التجريدي، حيث تهيمن الروح، لتكتمل بذلك بنود الصفقة في تأسيس المفهوم كلقية أساس في أبجديّة الوجود الإنساني.
وليس لنا أن نستهجن أن ترطن روح الفريق الذي صارت له الصحراء أرجوحة نجاة بالأنشودة الوجدانية التي تتغنّى بالإنتماء إلى سلالة "أتلانتا" (أطلنتيدا)، الشمس في سمائها قطب، أمّا أبناء القبيلة فهم النجوم التي تدور في فلكها، كما تقول الوصيّة المنحوتة في حجرٍ مزبورٍ بأقدم أبجديات العالم، وهي تيفيناغ، الليبية، المعتمدة لدى أخلافٍ هم طوارق اليوم، المكتشف في أقدم موقع أثري بالصحراء الكبرى وهو جرمنت، التي سادت بعد الكارثة، لتزهر وتهيمن لألوف الأعوام، فتفيض حضارتها على أمّة اليونان، فتستعير منها الأرباب والطقوس الدينية والعادات ومراسم الحياة الدنيوية، وحتى العربات المجرورة بأربعة جياد، كما يشهد أبو التاريخ هيرودوت في تاريخه. أمّا مولانا السابع، مسّينسّا، فلم يكن سوى حلقة في هذه السلسلة الغنيّة، من دياسبورا أسطورية، حاملةً في ركابها جرثومة الروح البدئية، التي كان لها الفضل في تأسيس المفاهيم الدينية والوجودية والفلسفية، السائدة طوال الحقب التالية.
وما صلاة مسّينسّا في حضرة شمسٍ نصّبها في دنياه معبوداً، كما يروي شيشرون، إلاّ اعتناقٌ لروحٍ مازلنا نشهد حضورها في واقع قبيلة "أوراغن" (جمع أورغ أو أورو) الصحراوية إلى اليوم، حيث تستعير إسم "أورغ" (أورو)، أي الذهب، ببُعدَيه بالطبع، لتتوّأ في مجتمع الطوارق المنزلة الملكية، بسبب مواهبها العقليّة، الموروثة، كما يبدو، عن حكمة سدَنَة في مرحلة البدايات.
ومازال الطوارق يستقدمونهم، كلّما غاب زعيم في قبيلة، لكي يولّونهم السلطة على القبيلة بمراسم تقليدية قدسية، ليمارسوا الحكم تحديداً، ولكنهم لا يتدنّسون بامتلاك حُطام دُنيا. أي أنهم يأمرون فيطاعون ، كما يقتضي منطق الحكمة الإلهيّة، ولكن ليس لهم أن يتنازلوا فيمتلكوا، لأن الملكية شأنٌ أرضيّ، دنيويّ، محفوفٌ بالدَّنَس، لا يليق بمن تنزّه عن الحضيض، بانتمائه إلى شمس الألوهة!
أفلن يكون مسّينسّا (مولانا السابع)، المُسبِّح بحمد الشمس منذ ألفي وثلاثمائة عام، هو سلف الأمس لأملوك أخلاف أطلنطيدا: طوارق اليوم؟