لعلّ السؤال المقلق لا للأمريكيّين فقط بل لبقيّة العالم منذ نهار الأربعاء الفائت هو التالي: "هل الديمقراطيّة الأمريكيّة في خطر؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل يعني أنّ ارتدادات ما جرى وما يمكن أن تجري به المقادير في تلك الدولة - الإمبراطوريّة، سيؤثّر حتمًا على منظومة الحياة السياسيّة بأشكالها وأنواعها حول العالم، ما قد يسمح بخفوت الديمقرطيّة وصعود الأنظمة القوميّة؟
لعلّه في ضوء ما أطلقت عليه بعضُ وسائل الإعلام – تجاوزًا – غزوة الكونجرس، يتحتّم علينا الرجوع إلى الفكرة الفلسفيّة وراء نشوء وارتقاء فكرة الديمقراطيّة في جذورها وأصولها، ومن ثمّ إقامة المقاربة مع الأحوال والمآلات في الداخل الأمريكيّ، والتوصُّل من ثمّ إلى نتيجة ممكنة.
يُروَى أنّ الديمقراطيّة في نشأتها مردودة إلى العصر اليونانيّ القديم، وبالذات إلى أثينا، فقد وضع بروتاغوراس لأوّل مَرّة في تاريخ البشريّة الأساس النظريّ للديمقراطيّة، ونقطة البداية عنده كيفيّة نشأة المجتمع، وهذه النشأة مردودة إلى تَجَمُّع الأفراد من أجل الدفاع عن أنفسهم ضدّ هجمات الحيوانات.
بَيْد أنّ هذا التجَمُّع قد أفضى إلى ارتكاب الموبقات؛ وذلك بسبب غياب فنّ الحياة في إطار التجمّع في مدينة، وفنّ الحياة عند بروتاغوراس زعيم السوفسطائيّين في القرن الخامس قبل الميلاد، هو فنّ السياسة. وبسبب هذا الغياب، أرسل كبير الآلهة زيوس إلى الأثينيّين فضيلتَيْن هما: الاحترام المتبادَل والعدالة، المكونَيْن للمبادئ المُنَظِّمة للمدن، والروابط التي تُسهِم في تأسيس الصداقة.
ولعلّ نظرةً عُليَا إلى واقع حال الولايات المتّحدة الأمريكيّة يكشف لنا وإلى حَدٍّ كبير، أنّ هناك قصورًا كبيرًا يصل إلى حدّ الخلل في ركيزتَيْ الاحترام والعدالة، وعلى غير المصدّق أن ينظر إلى آخر خطاب لحالة الاتّحاد في الكونجرس الأمريكيّ، حين رفض الرئيس ترامب مصافحةَ رئيسة مجلس النُّوّاب نانسي بيلوسي، قبل أن يُلقي خطابَه، وعليه فما كان منها سوى أن قامت بتمزيق الخطاب بعد انتهاء الرئيس من إلقائه، في مشهد لم يترك لجمهوريّات الموز بالفعل أيّ مجال.
والشاهد أنّه إذا كان هذا هو حال الاحترام المُتبادَل، فهل العدالة أفضل وضعًا؟
يمكن للرئيس ترامب أن يؤمن بما يشاء من تزوير الانتخابات، فهو حرّ في ذلك، لكنّ كون قيادات جمهوريّة تقدّميّة، بعضها حتمًا سيكون له شأنٌ رفيع في قادم أيّام الحكم في البلاد مثل السيناتور الناشط "تيد كروز"، تؤمن بأنّ هناك خللاً ما حَلّ بالعدالة الأمريكيّة عبر تزوير إرادة الناخبين، فهذا يُدَلِّل قولاً وفعلاً أنّ هناك شيئًا ما خطأ، حَتّى ولو لم يُقَدَّر اكتشافه في التوّ واللحظة.
العطب الكبير الذي يجعل الديمقراطيّة الأمريكيّة في خطر، يتمثّل في الشرخ الكبير الذي حدث في الجدار المجتمعيّ الأمريكيّ، ولم تكن هجمة الكونجرس سوى تعبير أوّليّ عنه، وربّما كان هذا ما قاد بعض وسائط التواصل الاجتماعيّ مثل تويتر لوقف حساب الرئيس ترامب، لا سِيّما بعد أن خاطب أنصاره بقوله: "الـ 75 مليون أمريكيّ وطنيّ الذين صَوَّتوا لي، أمريكا أوَلاً لنجعل أمريكا عظيمةً مُجدَّدًا، سيكون صوتُهم عظيمًا جدًّا في المستقبل، لن يتمّ التقليل من احترامهم أو معاملتهم بطريقة غير عادلة بأيّ شكل".
غاب الاحترامُ، وها هي العدالة المتمثّلة في الفصل بين السلطات تكاد تغيب من جَرّاء أفعال الكراهية الشخصيّة، ولعلّ خير دليل على ذلك الاتّصال الذي أعلنتْ رئيسة مجلس النّوّاب نانسي بيلوسي مع رئيس هيئة الأركان المشترَكة الجنرال "مارك ميلي"، والذي حَثَّتْه فيه على عدم الاستماع إلى أيّ أوامر رئاسيّة من ترامب بخصوص الحقيبة النوويّة بشكل خاصّ، الأمر الذي مُنطلَقه العداء الشخصيّ وعدم الاحترام لمبدأ فصل السلطات، ولهذا اعتبرتْ وسائل إعلام أمريكيّة الأمر بمثابة انقلاب أمريكيّ داخليّ صغير، لأنّه يُشجِّع بعض القيادات على عِصْيان الرئيس أو حتّى وقف صلاحيّاته، مع أنّه لا يزال الرئيسَ الشرعيّ للبلاد وحتّى 20 يناير القادم.
ترامب، من ناحيةٍ، يُؤجِّج نيران القلاقل، وعبارة سيسمع صوتهم عظيمًا في المستقبل، يُفهَم منها أنّ مشاغبات ومشاكسات الرجل لن تتوقّف مع خروجه من البيت الأبيض، بل ستستمرّ، ومعها مواقف تابعيه ومؤيّديه.
ومن ناحية ثانية، تجنح بيلوسي وبسرعة هائلة في طريق عزل ترامب، الأمر الذي فشلت فيه من قبلُ ومعها مجلس النوّاب، وغالبًا لن تنجح فيه بسبب مرور الأيّام القليلة التي باتت تُعَدّ على أقلّ من أصابع اليدَيْن، لكنّ مواقفها في كلّ الأحوال تترك جرحًا غائرًا في نفوس الجمهوريّين، وتزخم مشاعر الغضب لدى الديمقراطيّين، وما بينهما تتلاشى ملامح ومعالم الديمقراطيّة الغناء التي طالما تَشَدَّقت بها أمريكا الاستثنائيّة.
تفاءَلَ الكثيرون من الأمريكيّين ومن غيرهم حول العالم بالعمليّة الإجرائيّة الناجحة نهارَ الأربعاء، والتي قادت إلى تثبيت الرئيس جوزيف بايدن كرئيس للبلاد، وثَمَّنَ الأمريكيّون ديمقراطيّين وجمهوريّين، بل ومستقلّين، الموقف التقدّميّ لنائب الرئيس مايك بنس، ولزعيم الأغلبيّة الجمهوريّة في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، لثباتهما على الإقرار بحقيقة انتخاب بايدن، رغم ما شاب العملية الانتخابيّة من قلاقل.
غير أنّ التساؤل الحائر في سماء أمريكا: هل يعني ذلك أنّه من من خوف على الديمقراطيّة الأمريكيّة في الوقت الراهن وفي الأوقات التالية؟
خُذْ إليك ما تراه الفيلسوفة الأمريكيّة "سوزان نايمان"، مديرة منتدى آينشتاين في ألمانيا وقد جاء في رَدّها على سؤال: "هل تموت الديمقراطيّة في أمريكا؟
كان الجواب كالتالي: "أنا فيلسوفة ولستُ نبيّة، وبالتالي بإمكاني فقط القول إنّ الديمقراطيّة في خطر، والأمل استمَدّه من حركات القاعدة الشعبيّة الأمريكيّة الكثيرة، وفي مقدّمتها حياة السود مهمة، أكبر حركة اجتماعيّة في تاريخ أمريكا، فعلى إثرها يقول اليوم 75 % من الأمريكيّين "العنصريّة المنهجيّة مشكلة كبيرة".
والشاهد أنّه حين تقوم وسائل التواصُل الاجتماعيّ مثل تويتر تحديدًا بتعليق حساب الرئيس الأمريكيّ، وتترك حسابات أخرى للديمقراطيّين لا سيّما حساب نانسي بيلوسي، فإنّ ميزان العدالة هنا يختلّ.
والأكثر إزعاجًا في الدولة التي لا تزال نخبتُها المفكِّرة تؤمن جازمةً بأنّها تمثّل مدينة فوق جبل، تنير للعالم حرّيّة وديمقراطيّة، هو خوفها من حروف بضع كلمات يخطها ترامب عبر تويتر، أمّا الحُجّة بأنّها تُحرّض على العنف فواهِيَةٌ، لا سيّما وأنّ العنفَ مكوِّنٌ أصيل في التركيبة النفسيّة الأمريكيّة التي أبادت 140 مليون هنديّ أحمر هم أصحاب البلاد الأصليّين.
حين تَحدَّث السيناتور الأمريكيّ الشهير "بول فندلي" والذي رحل عن عالمنا في أغسطس 2019 عن "أمريكا الدولة التي في خطر"، وذلك قبل أكثر من عقَدْين، كان الرجل وعن حقّ يستشرف مآلات وقادم الأيّام الأمريكيّة.
في كل الأحوال، نسأل اللهَ السلامَ لشعب الولايات المتّحدة ولكافّة شعوب العالم .. الكراهية لا تفيد .. المَوَدَّات هي الحلّ.