ولكن، لأسباب تحتاج إلى المزيد من الدراسات المعمقة، تمكنت إيران من الهيمنة على مقدرات العراق السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، فأصبحت الدولة العظمى التي احتلت العراق وأسقطت نظامه، طريدة جماعات مسلحة، شكلتها دولة من دول العالم الثالث يحكمها نظام ثيوقراطي قروسطي، تتحرش بمصالح أقوى دولة على وجه الأرض، حتى أنها انشغلت عن مصالحها الاستراتيجية التي تتطلب إسناد النظام الجديد، بكيفية حماية سفارتها العملاقة، التي شُيدت لترمز إلى علاقات وطيدة بينها وبين دولة ديمقراطية راسخة قوية في العراق.

كيف حصل ذلك؟ وهل يمكن أن يكون قد حصل صدفة؟ أم بتخطيط؟ الصدفة في هذا المجال قليلة الوقوع، ولكن، ليس كل خطة يكتب لها النجاح. فالولايات المتحدة أقدمت في لحظة غضب ودون تخطيط دقيق على ما يبدو، لا لتسقط نظام دكتاتوري مقيت فحسب، فهذه كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، خصوصا وأن ذلك النظام كان منبوذا بين أبناء شعبه وغير قادر على العيش بسلام في محيطه الاقليمي، بل لتسقط دولة راسخة كانت مهدا للحضارات العالمية، فانتهى الأمر بأن تسلم مقدرات هذه الدولة إلى شراذم وعصابات قفزت من القرن السابع الميلادي، لا تفهم في السياسة والإدارة والاقتصاد، بل تؤمن بخرافات لا تليق بالقرن العشرين قبل الميلاد، ناهيك عن القرن الحادي والعشرين بعده.

حاورت أحد قادة هذه الجماعات (العراقية) في بداية التغيير وسألته "كيف تطالب بأن يدفع العراق تعويضاتٍ لإيران على حرب أصرت إيران على مواصلتها لثماني سنوات عجاف، وساهمت في تدمير البنى الأساسية للدولة العراقية وتكبيلها بديون ثقيلة لا تستطيع إيفاءها لعشرات السنين"؟ فقال "لكن العراق هو الذي بدأ الحرب والأمم المتحدة أقرت هذه التعويضات"! رددت عليه "وهل أنت مع تكبيل بلدك بالديون، أم أن واجبك المطالبة بإزالة الديون وإعمار البلد كي يصبح قويا ومزدهرا"؟ وجدت منطقه غريبا ومعيبا وهزيلا، ومعلوماتِه أكثر هزالة وركاكة، فالأمم المتحدة لم تحكم لإيران بأي تعويضات. كررت عليه القول: يا (مولانا) أنت عراقي، أليس كذلك؟ عليك أن ترعى مصالح العراق لا مصالح إيران. فظل يكرر معلومته المغلوطة من أن العراق هو البادئ بالحرب وأن الأمم المتحدة أقرت لإيران بتعويضات!

حينها أدركت أن العراق في خطر وأن تفكير قادة هذه الجماعات لا يمت بصلة إلى العصر الحديث وإلى منطق الدولة العصرية، فولاء هؤلاء لدولة أخرى، حتى بعد أن أصبحوا حكاما لدولة مستقلة. لكن الأمريكيين لم يكونوا ليفهموا أيا من هذه الابتلاءات العراقية، لأنها حقا خارج أطار التفكير المتاح للعقل البشري. فلا يمكن أحدا أن يستوعب أن شخصا سويا في موقع المسؤولية يمكن أن يقف ضد مصلحة بلده، الذي يشارك في حكمه، من أجل دولة أخرى، فما بالك إن كانت دولة معادية منذ مئات السنين؟ حاورت كثيرا من الأمريكيين بأنه ليس صحيحا أن تسلموا الدولة العراقية إلى جماعات مسلحة موالية لدولة معادية للعراق وباقي دول المنطقة، بل ولكل الدول المتمدنة في العالم، فقالوا "لكن هؤلاءِ عراقيون وقد نظّموا أنفسهم، بينما أنتم "الوطنيين" غير قادرين على تنظيم أنفسكم والاعتماد على قدراتكم، ونحن لا نريد البقاء طويلا في العراق! ينسى الأمريكيون أن إيران هي التي نظمت هذه الجماعات وسلحتها وأعدتها إعدادا أيديولوجيا كي تعمل ضد مصالح بلدانها، وهنا يكمن خطر الأيديولوجيات الدينية العابرة للحدود، المدججة بالسلاح الحديث.

لقد برهنت هذه الجماعات المتشدقة بالدين والمذهب، بأنها لا تنتمي إلى العراق مطلقا، فقد سرقته وأضعفته وقتلت أبناءه وأصرت على تسخير موارده وإمكانياته لخدمة إيران، عبر جعله سوقا لصاداراتها، وساحة لتصفية حساباتها مع خصومها العراقيين قبل الأجانب. وهذا الأمر لم يعد خافيا على العراقيين، لذلك تزايد التذمر الشعبي ضد هذه الجماعات منذ أكثر من عشر سنوات، آخذا في التعاظم حتى بلغ ذروته في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019 واستمر حتى حلت جائحة كورونا.

قد تتوهم هذه الجماعات بأنها قادرة على البقاء عبر تزوير الانتخابات والتمتع بالحماية الإيرانية وترويع السكان وإرهابهم ورشوة بعضهم من أموال الدولة المسروقة. وقد تكون خياراتها محدودة، لأنه لا يوجد مهرب لها، فحتى إيران التي استفادت من نشاطاتها وخدماتها، غير مستعدة لاستقبالها إن هي خرجت من السلطة أو المعادلة السياسية العراقية، وقد فعلتها إيران سابقا وتخلت عن جماعات عراقية موّلتها وسلّحتها. لكن عليها أن تعلم أن البقاء عبر السلاح والسرقة والتضليل هو الآخر ليس خيارا متاحا، لأن الشعب العراقي عرف كل شيء، وعرف أنها مجردة من القيم الأخلاقية والدينية، وأن الدين هو لعقٌ على ألسنة قادتها، يتشدقون به لخداع الآخر، بينما لا يطبقون الحد الأدنى من المبادئ الدينية التي يلهجون بذكرها صباحَ مساء. فمن يقتل الأبرياء ويسرق الأموال ويمارس الخداع والكذب والدجل، لا يمكن أن يكون متدينا، وهذه المسألة أصبحت واضحة لأبسط البسطاء في العراق والعالم، ولن يقتنع أحد بعد كل ما جرى من قتل وخطف وسرقة وتزوير ودجل، بأن هؤلاء يتبعون دينا أو مبدئا معينا غير خدمة أنفسهم واتباع أجندة دولة أخرى. الدين أعمق من اعتمار عمامةٍ وإطلاق لحيةٍ وحمل مسبحةٍ ولُبْس خاتمٍ والتظاهرِ بتأدية الطقوس والشعائر.

القضية الملحة التي تحتاج إلى علاج عاجل وتدخل حاسم من المرجعيات الدينية، هي أن هذه الجماعات الإرهابية المارقة، تدعي بأنها تسير وفق هدي المرجعية الدينية في العراق، وكل يوم يظهر أحد قادتها لينقل عن مراجع الدين الكبار أقوالا ومواقف مؤيدة لمواقفها، بينما تصمت المرجعيات أكثر الأحيان، أو تصرح بكلامٍ حمّالِ أوجه وقابلٍ للتأويل. المسألة لم تعد تحتمل الانتظار، فالعراق يحتضر بسبب الشح المالي والتدهور الأمني والخدمي وتصدي غير الأكفاء للقيادة، وإن انفلت الوضع خارج السيطرة، وهذا محتمل وممكن، فسيكون من الصعب العودة به إلى التماسك السابق، ولن يسلم أحد من الضرر.

الحكومة العراقية لم تلاحق هذه الجماعات، ولم تحاسبها على قتل الشباب المحتجين ومهاجمة السفارات الأجنبية ونهب موارد الدولة وتهريب النفط، وبدلا من محاسبة الفاسدين ووقف نهب المال العام، لجأت إلى رفع الضرائب وخفض قيمة العملة، وهذا الإجراء، وإن كان صحيحا على الأمد البعيد، لكنه أضر بشريحة الفقراء. لا يوجد سبب مقنع لهذا التردد في مواجهة الجماعات الإرهابية، فلديها أكثر من مليون منتسب في الجيش والشرطة وباقي قوى الأمن، وفوق كل هذا، فإنها تتمتع بدعم دولي وإقليمي إن أقدمت فعلا على المواجهة. هذا التقاعس عن أداء أهم واجبات الحكومة، لا يمكن تبريره ولا يمكن قبوله، والشعب الذي ينتظر الخلاص من جائحة كورونا، سينتفض مطالبا بحقوقه، بقوة أكبر من السابق، وحينها سوف يلتحق المسؤولون الحاليون بقائمة المطلوبين للشعب.

المواجهة مع قوى الإرهاب والجريمة مطلوبة، ومطلوبة الآن. وعلى الذي لا يمتلك القدرة على الاضطلاع بهذه المسؤولية الكبرى، والارتقاء إلى التحديات القائمة، أن يتنحى جانبا، فالحكم ليس نزهة أو فرصة للاستمتاع والتباهي بإنجازات متخيلة، والاستماع لمديح المتملقين الضعفاء، وإنما مسؤولية وطنية كبرى تتطلب خبرة وحنكة واستعدادا للتضحية، إضافة إلى الجرأة والإقدام والشجاعة والقدرة على اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب وليس بعد فوات الأوان.

الدول الناجحة هي التي يقودها الخبراء المتمرسون في السياسة والاقتصاد والإدارة والأمن والتعليم والثقافة، وما أكثرهم في العراق. يجب أن يحصل هذا التغيير عاجلا، كي يضع البلد على السكة الصحيحة. لا مكان للتجريب والاختبار على أيدي هواة السياسة والإدارة، فالقضية تتعلق بحياة الناس ومستقبل الدولة والأجيال المقبلة. الذين حكموا العراق خلال الحقبة الماضية لم يألفوا العمل الحكومي، ولم يدرسوا علوم السياسة والاقتصاد والإدارة، ومعظمهم درسوا في الحوزات والمدارس الدينية المتخصصة في مجالات بعيدة عن إدارة الدولة العصرية. وبعضهم كان يعيش على هامش المجتمع ولم يعمل في أي مجال. كان على هؤلاء أن يركزوا على مجالات تخصصهم، ولا يمارسوا التجريب في مصائر الناس والبلدان، وأن يطبقوا على أنفسهم الحديث الشريف (رحم الله امرئا عمل عملا فأتقنه) ولا يمكن غير المتخصص أن يتقن عملا في غير تخصصه.

المرحلة المقبلة خطيرة جدا لأنها تحدد إن كان العراق سيستمر كدولة، أم يتفكك ويصبح مشكلة لأهله والمنطقة والعالم. لذلك ليس صحيحا أن يستمر من لا خبرة ولا رؤية له، ولا برنامج مدروسا قابلا للتنفيذ، في ممارسة التجريب، فالنجاح لا يمكن أن يتحقق صدفة، بل يجب أن تكون هناك خطط مدروسة للنهوض بالبلد، يضعها وينفذها خبراء متمرسون. المرحلة تحتاج قيادة استثنائية شجاعة قادرة على انتشال البلد من الجماعات المسلحة التابعة لإيران، وإلى أن يتصدى لإدارة البلد الخبراء المخلصون، المستعدون للعمل الجاد والدؤوب لإصلاح الأوضاع، والتضحية إن تطلب الأمر ذلك.

 وإلى جانب ذلك، تحتاج أيضا إلى إسناد الشعب لمثل هذه الحكومة الكفوءة، ووقوف المرجعيات الدينية مع القوى الوطنية الساعية إلى إقامة دولة عصرية ديمقراطية مستقلة، لأن مثل هذه الدولة تخدم مصلحة غالبية الشعب، وأقول (غالبية) كي أكون دقيقا، فهناك الآن عراقيون مؤمنون بأيديولوجية حكام إيران، التي تلغي فعليا استقلال العراق وسيادته، ولا بد لهؤلاء أن يصحوا من هذه الغفوة ويعودوا إلى رشدهم في قابل الأيام.

لم يعد متاحا لأي منا التغاضي عن المتشدقين بالدين والمزورين للمواقف وممارسي الافتراء والخداع، فهؤلاء تمادوا في الإساءة إلى المبادئ والقيم الدينية التي تهم الجميع. كما أساءوا أيضا إلى مراجع الدين، الذين أبدوا تسامحا أو تغاضيا تجاه هذه الإساءات المتكررة لهم، ولكن آن الأوان لاستبدال السماحة والتغاضي بالحزم ومواجهة الافتراءات التي ألحقت ضررا مدمرا بالبلد والمجتمع والقيم الدينية.

لقد وقفت المرجعية مع الشعب عام 2019، وطالبت باستقالة حكومة عادل عبد المهدي، التي قُتل واُختطف وجُرح في عهدها آلاف العراقيين، بينما سُرقت مليارات الدولارات من أموالهم. كان موقفا مشهودا للمرجعية الدينية، والمطلوب الآن لجم قادة الجماعات المسلحة المتشدقين بالدين والمتحدثين باسم المرجعية زورا، الساعين إلى السلطة والمال عبر تزوير المواقف وتضليل البسطاء.

الشعب العراقي قال كلمته في انتفاضة تشرين، وهي التأسيس لدولة ديمقراطية عصرية مستقلة تخدم مواطنيها جميعا، وتخلو من التمييز بينهم. آن الأوان أن يقف السياسيون والمثقفون والصحفيون ورجال الأعمال ورجال الدين، وبالتحديد مراجع الدين، بالإضافة إلى الجيش والشرطة، مع إرادة الشعب العراقي التي تتفق مع مصلحة الدولة والمجتمع، وهي إقامة دولة ديمقراطية قوية خالية من المسلحين والمرتزقة التابعين لدولة أخرى. يجب ألا يكون هناك موضع قدم لأي شخص يسعى للانتقاص من سيادة العراق واستقلاله وإرثه الحضاري. عندها سيرسو العراق على البر وينجو من السقوط في البئر.