فبعدما كانت العلاقة في أعلى مستوياتها توتراً خلال العام 2015، بعدما أسقطت الدفاعات الجوية التركية طائرة حربية روسية في الأجواء السورية وقتئذ، تبدلت المجريات بالتقادم، من مصالحة وتفاهمات وتبادل للمصالح والحساسيات، شكلت مؤتمرات سوتشي العديدة وتفاهمات الأستانة تعبيراً عن تلك العلاقة التكاملية.

في وقت ما من العام 2016، وبعدما استخدمت تركيا كامل عدتها الدعائية والعسكرية والسياسية في الملف السوري، ولم تتمكن من تحقيق أي من مراميها الاستراتيجية، اكتشفت بأن الحضور السياسي والدور العسكري الروسي في سوريا أصعب من أن يتم مواجهته. خصوصاً في ظلال غض نظر الإدارة الأميركية عن ذلك، وانشغالها بمحاربة التنظيمات الإسلامية الأكثر تطرفاً، دون أي اهتمام بالملف السوري كحالة سياسية عامة.

اعتباراً من ذلك الفهم، صارت تركيا تغير من نمط مقاربتها للعلاقة العسكرية والسياسية مع روسيا في الملفات الإقليمية، ليكون تنسيقياً وتكاملياً. أخذت تلك الصيغة شكلها النهائية في أوائل عهد حُكم إدارة الرئيس دونالد ترامب، فالطرفان استفادا من نزعة الانسحاب العسكرية والسياسي من الملفات المعقدة التي قادها الرئيس ترامب، والتي أدخلت الكثير من المناطق في مساحة الفراغ الجيوسي، وكذلك من نمط العلاقات والقرارات الشخصية التي كان الرئيس ترامب ينتهجها ويتخذها الرئيس ترامب أثناء سنوات حكمه، وكان واضحاً أن تلك العلاقة الشخصية من طرف ترامب كانت ودية مع الرئيسين بوتين وأردوغان.

خلال أربع سنوات من ذلك التنسيق، شهدت خمسة مناطق إقليمية تكاملاً عسكرياً وسياسياً بين الطرفين، لكنه كان تحالفاً ثنائياً محطماً للأمن الإقليمي والسلام الدولي، لأن طبيعة النظام الحاكم للبلدين، وشكل نزعات الهيمنة التي كانا يقودانها، لا تراعي تلك المفاهيم والقيم العالمية.

في سوريا تبادل الطرفان مناطق الهيمنة والنفوذ، على حساب الجماعات السياسية والأهلية السورية، فروسيا كانت تطلب عوناً تركياً للسيطرة العسكرية على مناطق ومدن محررة، وتمنح تركياً أذناً بمحاربة أية تطلعات كردية سورية. الأمر نفسه جرى في ليبيا والحرب الأذرية الأرمينية وشرق المتوسط وأوكرانيا، وكل ذلك عبر تنافس وتصارع ظاهري، لكن بتنسيق وتكامل ضمني متفق عليه، واستفادة من فراغ جيوسياسي استراتيجي للولايات المتحدة.

إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن، وعبر ما أظهرته من ملامح أولية لتوجهاتها الاستراتيجية، تُظهرا اختلافاً جذرياُ في كل ذلك.

فهي لن تسمح لروسيا بأن تملأ الفراغ في الدول والمناطق التي تشهد حروباً أهلية، بطريقة تدفع روسياً لأن تغير من أسس الأشياء والديموغرافيات، فقط لتفرض في المحصلة شروطها السياسية المطلقة، كما تحاول أن تفعل في سوريا منذ أربعة سنوات. كذلك فإنها لن تكون متسامحة مع سلوك تركيا الذي يوحي بأنه ما يزال جزء من منظومة حلف الناتو، بينما يطبق على الأرض كل ما يمس ويهز استقرار تلك المنظومة ومصالحها الحيوية، عبر مساعدة المتطرفين ورفع سوية الشعبوية ونشر قيم الكراهية الدينية.

هذه التوجهات للإدارة الأميركية المنتخبة، ستخلق تحدياً جوهرياً لحالة التنسيق والتقاسم التي كانت بين الطرفين، والتي يمكن رصد ملامحها الأولية في ثلاثة توجهات مباشرة.

فالإدارة الجديدة سوف تحفز الجهود الدولية، الأوروبية منها بالذات، لإيجاد مخارج حقيقية لحوار الأطراف الليبية. هذا الأمر الذي سيعني حتماً دعوة كافة الميليشيات الأجنبية للخروج من الأراضي الليبية، وتالياً خروج ليبيا كمنطقة مساومة بينهما.

كذلك فإن الإدارة الأميركية سوف تتخذ تحولاً استراتيجياً في الملف السوري. فهي سوف تحمي حلفائها من قوات سوريا الديمقراطية إلى أبعد حد، ولن تسمح بمزيد من الخروقات والحروب التركية المناهضة لهم وللمناطق التي تسيطر عليها هذه القوات. كذلك فأنها سوف تحفز تطبيق القرار الأممي 2254، الأمر الذي يعني بأن المسألة السورية لن تنحل عبر تنسيق وتبادل للمصالح بين تركيا وروسيا، بل عبر رؤية تعتبر بأنه ثمة مسألة سياسية تتعلق بنظام الحُكم في هذا البلد.

الأمر ينطبق تفصيلاً على منطقة شرق المتوسط، حيث ستحفز الإدارة الأميركية تعاوناً عسكرياً مع اليونان، سيكون كعقوبة عسكرية غير مباشرة لتركيا، قد تهدد مستقبلاً بنقل قاعدة أنجيرليك العسكرية إلى اليونان، وتضاف للعقوبات العسكرية المباشرة التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا هذا الأسبوع.

هذه الخطوة الأميركية العقابية عبر اليونان، ستكون حسماً لمستقبل التعاون العسكري التركي الروسي. فتركيا أما مجبرة للتخلي التام عن المنظومة الدفاعية العسكرية لحلف الناتو، وتالياً الاندماج في نظيرتها الروسية، أو العكس. وفي الحالتين خسارة جميع ميزات قدرتها على الجمع بين الموقعين، والتي أتبعتها تركيا طوال السنوات الأربعة الماضية، وهو ما لم يعد ممكناً مع الإدارة الأميركية الجديدة.