في كتابه الرائع "قراءة التاريخ" يقول الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم أننا لا نحتاج-كما يقال دائما- لـ"إعادة كتابة التاريخ" وإنما نحن في حاجة إلى "إعادة قراءة التاريخ".
وحسنا قال أستاذنا الكبير، فقراءة التاريخ أشبه بالدورة الدموية، لا بد أن تكون عملية مستمرة ومتجددة.. وأن تتمخض كل قراءة عن أفكار جديدة تؤدي بدورها لقراءات جديدة وهكذا.
وليس من الضروري أن تتفق القراءات المختلفة للتاريخ، بل حبذا لو اختلفت وتنوعت.
بلى.. فكثيرا ما أسمع البعض يقول شاكيًا "إنني حين أنظر في كتب التاريخ أرى هذا يقول كلامًا وذاك يقول عكسه وثالثًا يقول ما يعارضهما حتى سئمت وتمنيت أن أجد من يعطينا قولًا فصلًا لا جدال فيه" وهو في حقيقة الأمر إنما يشكو من طبيعة بشرية لا تبديل لها، فمن الطبيعي أن تتنوع وتختلف القراءات للتاريخ خاصة مع تنوع مشارب الناس وانتماءاتهم ومنطلقات قراءاتهم للحالة التاريخية.
المصيبة أن غلمان العثمانيون الجدد وأتباعهم يفسدون كل ما يتعلق بقراءة التاريخ.. لماذا؟
لأنهم حين تُقَدَم قراءة مختلفة عن قراءتهم للتاريخ العثماني يعتريهم هياج ثيران حلبات المصارعة! فلا يناقشونها أو يفندون ما فيها بل يتولاهم جنون يجعلهم يهاجمون شخص صاحبها ويشككون في نواياه باعتبار أن منطلق قراءته هو بالضرورة غل وحقد تجاه تاريخ الإسلام والمسلمين، بل وربما ضد الإسلام نفسه كدين (وهو أمر سبق لي عرضه وتحليله تفصيلًا في بدايات تلك السلسلة من المقالات فأرجو من القارئ العزيز أن يراجع هذا العرض)
وإذا قيل لأحدهم "وما الضرر من عرض قراءة مختلفة؟" يجيب بكل ثقة "أنا أدافع عن التاريخ الإسلامي كله والتاريخ العثماني جزء من تاريخنا الإسلامي"
سبحان الله! هل يدري أمثال هؤلاء ماذا كان منطلق اهتمام المسلمين بالتاريخ؟
إن القارئ في تاريخ التأريخ عند المسلمين يجد أنهم قد تعاملوا مع قراءة التاريخ باعتبارها واجبًا أمر به الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله: "قل سيروا في الأرض فانظروا عاقبة الذين من قبل"(فضلًا عن عوامل أخرى لنشأة علم التاريخ عند المسلمين أحيل القارئ فيها لكتاب "قراءة التاريخ" للأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم).
وفي تعريف العلامة عبد الرحمن بن خلدون-وهو التعريف الأكثر نضجًا لعلم التاريخ-فإنه يقول ما معناه أنه علم في ظاهره مجرد قصص وفي باطنه استفادة من تجارب السابقين لنفهم حاضرنا ونستعد لمستقبلنا...
فهل التاريخ العثماني حالة خاصة لا تنطبق عليها هذه القواعد؟
وهل التاريخ لا يقتصر إلا على الصفحات المضيئة والتجارب الناجحة؟
أذكر أنني ذات مرة كنت في نقاش بشأن علم التاريخ مع الأستاذة سوزان باومغارت-رئيس المركز الثقافي الألماني-فقالت لي: "ذات مرة سألني أستاذ جامعي مصر لماذا يصر الألمان على التطرق للمراحل المظلمة في تاريخهم رغم كونهم دولة قوية وشعب قوي؟ فأجبته: هذا لأننا أقوياء بما يكفي لمواجهة أنفسنا بتجاربنا السيئة ومراحلنا المظلمة لنتعلم منها"
الأستاذة باومغارت لخصت هنا ما نحتاج إليه في قراءة التاريخ: القوة لمواجهة أخطاء الماضي!
والإسلام كدين عمره حوالي 1452 سنة، ودولة الإسلام لو حسبنا بدايتها من الهجرة إلى المدينة وأول دستور في تاريخ الإسلام فعمرها 1442 سنة... هل يعقل أن المسلمين بأنظمتهم ودولتهم (التي بلغت في بعض التقديرات 186 أسرة حاكمة) لم تكن لهم مراحل مظلمة وتجارب سيئة؟!
وهب أننا اختلفنا في شأن حالة تاريخية حول ما إذا كانت تمثل تجربة سلبية أو إيجابية، فما المشكلة؟ لماذا يعامَل من يلفت النظر لسلبيات تلك الفترة باعتبار أنه بالضرورة حاقد متآمر على التاريخ الإسلامي؟ إلى حد اتهامه بأنه إذا تناول الاستعمار الأوروبي فلن يتحدث بتلك القسوة وهو قول أحمق، فالاستعمار هو عدوان خارجي إذا درسناه كحالة فسيكون المنطلق هو: كيف قصرنا في الاستعداد لمواجهته. أما الانهيار الداخلي فهو حالة نحن مسئولون عنها بالكامل وعلينا أن نكون أكثر قسوة على أنفسنا في نقد السلبيات التي أدت إليه، أو كما يقول المثل الشعبي المصري "يا بخت من أبكاني وبكى عليّ ولا من أضحكني وأضحك الناس عليّ"
وفي المقابل، فإنك لو انتقدت قراءتهم للتاريخ فسيقولون "إنما نحن نمارس حقنا في تقديم رؤيتنا للتاريخ"... حسنا. لماذا لا تحترمون إذن حق غيركم في تقديم رؤيته وقراءته؟! أم أن حرية الرأي والفكر هي حكر عليكم؟!
ولكن، ماذا أقول في قومٍ يتضمن فكرهم الفاسد تفسير مصيبة تصيب خصمهم بأنها "عقاب إلهي" بينما لو أصابتهم نفس المصيبة لقالوا "هو ابتلاء وأجر من الله"؟
لقد حدثنا القرآن الكريم عن المطففين ووصفهم بأنهم "إذا اكتالوا على الناس يستوفون" أي إذا طلبوا حقهم طلبوه كاملًا، و"إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون" أي إذا طُلِبَ منهم حق الآخرين انتقصوا منه... وإن كان المقصودون هنا هم من يطففون في التجارة فإن هؤلاء يطففون في حرية الرأي والفكر!
هل يُتَوَقَع من أمة ينشط بعض المنتسبون إليها لتخويف من يحاول تحليل وشرح سلبيات بعض مراحلها أن تتطور وتتقدم يومًا وأن تسترد مكانتها القديمة؟! للأسف فإن ثمة فروق فردية تقول إن ليس الجميع على نفس المستوى من القوة والشجاعة والقدرة على مواجهة هؤلاء الرعاع وإرهابهم الفكري، مما يعني أن كثيرين سوف يتخوفون من طرح أفكارهم خشية تعرضهم لحملات هؤلاء!
إن القارئ لتاريخ التأريخ سيرى تجربة تستحق التأمل: هي تجربة المدرسة اليهودية القديمة في كتابة التاريخ في العصور القديمة، فقد كانت قراءة التاريخ فيها تعتمد على فكرة تمحوره حول الشعب اليهودي، وبالتالي فإنها قد بقيت قراءة قاصرة بسبب انتزاعها الإنسانية من علم التاريخ وتحويله إلى قصة "أمة بطل" تتمحور حولها الأحداث وباقي الأمم تلعب دور "الشرير" أو "الكومبارس".. وهي نفس القراءة التي يتبناها هؤلاء العثمانيون الجدد وغلمانهم.. أي أنهم يمثلون رِدة لقراءة التاريخ!
وإنني إذ اتهمهم بإفساد علم التاريخ فإنني أؤكد أنها جريمة "متعمدة" منهم، فهم يريدون أن يحولوا التاريخ إلى كهنوت خاص بهم، وأن يحشد كل منهم غوغاءه ليسلطهم على من يخالفه ليخلقوا حالة من الخوف من تقديم طرح مخالف لرؤيتهم الفاسدة.. والنتيجة المنتظرة هي أن يتربعوا على "عرش" قراءة وتفسير التاريخ بما يخدم مصالحهم ومصالح من وراءهم... والقاعدة معروفة: من يمتلك الماضي يتحكم بالحاضر ويملك المستقبل!
بلى.. فليس الأمر مقتصرًا على مجرد قوم متحمسون لتاريخ يعتزون به و"تأخذهم الجلالة" فيندفعون لمهاجمة من يخالف ثوابتهم، وإنما هي مؤامرة وتوجه ونشاط مُخَطط له بدقة.. فمن المستحيل أن تتمخض الصدفة عن رد فعل تلقائي متكرر تجاه مؤثر بعينه!
إنني أقول بشكل صريح ومباشر: هؤلاء القوم ليسوا بتلك العشوائية التي قد نفترضها وإنما هم ينفذون مخططًا منظمًا دقيقًا وضعه أناس يعرفون جيدًا ما الذي يفعلونه! أنا لست من محبي نظريات المؤامرة وكثيرًا ما انتقدتها بل وربما سخرت من بعضها لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي هذه المرة من تبني تلك النظرية.
فلنكن واقعيين... ولننظر للتعليقات في الصفحات الإخبارية على الأخبار ذات الصلة بالدولة التركية أو الموضوعات ذات الصلة بالتاريخ العثماني... كَم هائل من التعليقات التي ترفع العلم التركي أو تؤيد نظام أردوغان أو تهاجم بشراسة من يتناول العثمانيين بالنقد وتكيل له السباب والطعن في الدين بل والعرض.. فلنسأل أنفسنا بصراحة: هل هؤلاء ممن يؤمن جانبهم إذا ما وقعت مواجهة مباشرة مع نظام يروج لأنه باعث "المجد العثماني"؟ هل تأمن ظهورنا من طعناتهم؟!
من الذي أوجد هؤلاء؟ ما علاقة السببية بين وجودهم ووجود تيار كامل لا يمارس مجرد الحق الطبيعي في تبني وجهة نظر إيجابية عن العثمانيين (وهو أمر لا يعيب من يتبناه طالما كان هذا في إطار الرأي والنقاش العلمي الراقي) وإنما هم يحرصون على شن هجمات إرهابية فكرية منظمة على من ينتقد الدولة العثمانية بكل ما في أيديهم من أحط وأخس الوسائل من مزايدة دينية واتهام في الأخلاق وتشويه للسمعة؟
إن الذي يرجو انتصار عدو بلاده على وطنه ويرفع علم هذا العدو إنما جاء من مدرسة هؤلاء!
اعتقد أن علينا أن ننظر بجدية لهم ولتيارهم ليس باعتبار أنه يمثل "خطرًا معنويًا" فحسب بل باعتبار أنهم يمثلون "خطرًا ماديًا" ينبغي التصدي له بقوة... فمن عباءة هؤلاء يأتي المتعصب ضد الآخر الذي قد يتحول يومًا لإرهابي يستهدف هذا الآخر ويحاول وصم ديننا وثقافتنا بمبررات جريمته، ومن مدرستهم الفكرية الفاسدة يأتي الخائن الذي يرفع متبجحًا أعلام أعداء وطنه وأمته ويطعن بنو جلدته في وقت المعركة.
ولنؤكد هنا: الحديث ليس على كل من يدافع عن العثمانيين أو يتبنى وجهة نظر إيجابية تجاه تاريخهم ويناقش المخالف له برقي واحترام وإنما على فئة معينة تتبنى منهجًا متطرفًا وأسلوبًا يتسم بالإرهاب المعنوي ضد من يختلفون معهم ويرفضون هذا التمجيد المبالغ فيه والتحصين الشديد للتاريخ العثماني من النقد...
هؤلاء القوم قد غزوا الدين بتطرفهم، وها هم يسعون بقوة لغزو التاريخ بنفس التطرف... فأعتقد أن التصدي لهم لم يعد مجرد "رياضة فكرية" وإنما قد أصبح "مسألة أمن قومي".