الحل لهذه الأزمة داخلي عراقي، يتطلب الكثير من الخيارات الصعبة والمؤلمة التي يحتاج أن يتصالح معها العراقيون وينفذونها، من أجل إصلاح الاقتصاد، والسياسة معه. بخلاف هذا، ستضيف هذه الازمة المالية، إذا بقيت دون حل حقيقي وليس ترقيعياً، سخطاً اقتصادياً شعبياً واسع النطاق، يغذي السخط السياسي المشروع الذي أعلنته حركة الاحتجاج الشعبي في 2019، لتضع البلد على أعتاب الثورة، وليس الإصلاح. يشكل تحالف الجوع الاقتصادي والغضب السياسي في أجواء انعدام آفاق الحل، المادة الأساسية للثورات.

وفي بلد كالعراق حيث ينتشر السلاح وتضعف الدولة، خصوصاً مؤسسات حماية وإنفاذ القانون، وتتغول مجاميع ميليشياوية مافيوية ويهيمن الإقطاع الحزبي الانتهازي، تعني الثورة فيه الكثير من الدم والفوضى والاحتمالات الجدية لتفكك البلد نهائياً.

 تؤشر الازمة المالية الحالية النهاية المنطقية للدولة الريعية حيث لا ينتج المجتمع الثروة من خلال جهود أفراده الاقتصادية، بل يعتمد على ثروة طبيعية تحت الأرض تهيمن عليها الدولة وتوزع عوائدها عليه على أساس معادلات القوة والترضية. بدأ تشكل الدولة الريعية في العراق في بداية الخمسينات بعد اتفاقية مناصفة الارباح التي عقدتها الحكومة العراقية مع شركة نفط العراق البريطانية.

ففي ميزانية عام 1950 التي بلغت نحو 33 ونصف مليون دينار شكل النفط فيها بحدود 16 بالمئة من إجمالي الدخل، فيما شكلت الرسوم والجمارك نحو 40 بالمئة.

وفي عام 1951 بلغت الميزانية العامة نحو ٤٥ مليون دينار ارتفعت مساهمة النفط فيها الى نحو 29 ونصف بالمئة، فيما تراجعت مساهمة الرسوم والجمارك إلى نحو 35 بالمئة تقريباً.

وتضاعفت ميزانية الدولة تقريباً في 1952عام تنفيذ اتفاقية المناصفة، أساساً بسبب زيادة عوائد النفط لتشكل 47 بالمئة من ميزانية ذلك العام الذي بلغت الميزانية العامة فيه نحو 80 مليون دينار، فيما كانت نسبة عوائد الجمارك والرسوم نحو 20 بالمئة من الميزانية. وشهدت ميزانية 1953 قفزة اخرى في رقمها الإجمالي لتبلغ أكثر من 91 مليون دينار شكل النفط فيها نحو 64 بالمئة تقريباَ، فيما بلغت نسبة مساهمة الرسوم والجمارك 20 ونصف بالمئة.

 منذ عام 1953 على امتداد الخمسينات والستينات لم تتراجع مساهمة النفط في الميزانية العامة عن النصف مع تصاعد المبالغ الإجمالية للميزانية لتبلغ مليارات الدولارات في السبعينات، شكل النفط فيها على نحو تصاعدي مستمر أكثر من ثمانين بالمئة.

في العراق الجمهوري ومع صعود ما سمي بالاشتراكية العربية في منتصف الستينات في عهد عبد السلام عارف، ساهمت قوانين تأميم شركات القطاع الخاص الكبرى، والقوانين البعثية في بداية السبعينات لتعميق التأميمات في هذا القطاع، من خلال وضع قيود اضافية عليه، في قتل البرجوازية الناشئة منذ أواسط العهد الملكي التي كانت تقود النمو التدريجي للقطاع الخاص. قادت شمولية الدولة البعثية، وبسبب توفر عوائد نفطية هائلة بعد حرب تشرين في ١٩٧٣ إثر اكمال تأميم النفط قبل هذه الحرب وارتفاع أسعاره الهائل في السوق العالمية بعدها، إلى هيمنة كاملة ومطلقة لهذه الدولة على الاقتصاد، إذ اتسع القطاع العام على نحو كبير وضُمِنَ التوظيف قانوناً للأعداد المتزايدة من خريجي المعاهد والجامعات والمدارس المهنية، بغض النظر عن الحاجة الفعلية لكل هؤلاء. في ظل قيم اشتراكية ملتبسة فهمت المساواة والعدالة الاجتماعية على نحو مشوه، مثلت هذه التعيينات شكلاً من الرشوة الاقتصادية للمجتمع والحاقاً له بأيديولوجية الدولة الشمولية القومية التي أرادت المجتمع تابعاً يُنفذ ولا يفكر، وليس اطلاقاً لقدراته على الابتكار والإبداع في مجالات المعرفة والاقتصاد وصناعة الثروة. 

بعد سقوط النظام البعثي في ٢٠٠٣، انتهت شمولية الدولة السياسية، لكن بقيت شموليتها الاقتصادية عبر هيمنتها على الاقتصاد واستمرار الفهم الريعي لعلاقتها بالمجتمع، برغم تخلي دولة ما بعد ٢٠٠٣ عن الاشتراكية وتبنيها الراسمالية او ما يطلق عليه تسمية الاقتصاد الحر. من خلال استمرار هذا الفهم الريعي والانتهازية السياسية التي طبعت سلوك الأحزاب التي تتحكم بهذه الدولة، لجأت أحزاب الدولة الى شراء الولاءات الحزبية والدعم الانتخابي من خلال رشاوى التعيينات في الدولة، ليتضخم عدد موظفي القطاع العام مثلاً  أربع مرات بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠٢٠ الى اكثر من اربعة ملايين في عام ٢٠٢٠، فيما بقي القطاع الخاص يعاني من ذات القيود الاشتراكية السابقة، فضلاً عن التنافس الحزبي والميليشاوي على موارده المحدودة اصلاً عبر املاءات الابتزاز والأمر الواقع. 

لم تكن الأرقام المرعبة في الميزانيات السنوية تثير قلق الاحزاب وصناع القرار بخصوص الكارثة الاقتصادية المقبلة، وكيف ان قسمها الاكبر، وعلى نحو متصاعد، يذهب لدفع الرواتب والمعاشات. فمثلاً استهلكت رواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين نحو ٤٧ بالمئة من ميزانية عام ٢٠١٩ البالغة نحو ١١٢ ترليون دينار.  قفزت هذه النسبة الى ٦٧ بالمئة من ميزانية عام ٢٠٢٠ البالغة أكثر من  ٨٠ ترليون دينار (أقل من نسبة ال ٧٤ بالمئة التي توقعتها الورقة البيضاء في خريف ٢٠٢٠ وقت صدور الورقة). في ميزانية عام ٢٠٢١ التي يجري الاشتغال عليها الآن، يتوقع أن تمثل الرواتب والمعاشات نحو ٤٥ بالمئة من المبلغ الإجمالي لها الذي يصل إلى ١٦٤ ترليون دينار (أي نحو ضعف ميزانية ٢٠٢٠). يعني هذا إنه رغم انخفاض النسبة المئوية للرواتب والمعاشات في ميزانية ٢٠٢١، فإن المبالغ المخصصة لها ازدادت لتصل إلى ٧٤ ترليون دينار مقارنة بعام ٢٠٢٠ التي وصلت مبالغها اكثر من ٥١ ترليون دينار، بعد اضافة اكثر من٣٠٠ الف موظف جديد في العامين الماضيين، بينهم الذين سيُضافون في عام ٢٠٢١. 

عملياً، من دون إجراء إصلاحات سريعة وفعالة، سيواجه العراق في المستقبل القريب جداً مأزقاً بالغَ الصعوبة يحتاج فيه عوائده النفطية المتحصلة في شهرين لتغطية نفقاته لمدة شهر واحد. إذا استمرت مستويات الإنفاق بشكلها الحالي من دون تعديلات جوهرية، ففي خلال أعوام قليلة، كاقصى حد، لن تستطيع الدولة تلبية نفقاتها، وتواجه خطر الإفلاس، وصولاً الى الانهيار الاقتصادي. حتى وان عادت أسعار النفط الى الارتفاع بشكل كبير، وصولاً الى مئة دولار مثلاً للبرميل الواحد، وعلى امتداد فترة طويلة نسبياً، عام او اكثر مثلاً، (وهذا امر مستحيل طبقاً لتوقعات خبراء سوق النفط)، فلن تجد المشكلة الاقتصادية العراقية طريقها للحل، لان العوائد النفطية الجديدة نفسها لن تكفي لتغطية نفقات الميزانية المتصاعدة على المدى المتوسط. في احسن الاحوال، سيكون مثل هذا الارتفاع في أسعار النفط، المستبعد أصلاً، تأجيلاً آخر للكارثة وليس تجنباً لها.

إحدى الاشكاليات الاساسية في التعاطي مع الوضع المالي الصعب للبلد، في إطار الجدل بخصوص القرار الحكومي بتخفيض سعر صرف الدينار مقابل الدولار واقتراح ميزانية مختلفة للبدء بعقلنة الإنفاق الحكومي وزيادة العوائد غير النفطية، هي هيمنة الاثارات الشعبوية والاخلاقية عليه، تارة باسم الدفاع عن حقوق الفقراء واعتبار رواتب الموظفين خطاً احمرَ، وتارةً اخرى باسم مكافحة الفساد.

في هذا النقاش الذي تهيمن عليه الأيديولوجيا وليس الوقائع، يغيب عموماً جذر المشكلة الاساسي او يُمر عليه سريعا. فجذر المشكلة هو  ريعية الدولة واستخدامها التوظيف الواسع لشراء سكوت المجتمع، وهي المشكلة التي يتشارك الجميع، بمقادير مختلفة، من صناع قرار وساسة ومحللين وجمهور، في صناعتها وإدامتها وحتى التغطية على جسامة الضرر الناتج عنها. فمثلاً يُستعاض غالباً عن تصحيح الخلل الهيكلي في الاقتصاد الريعي للدولة بمكافحة الفساد.

صحيح أن الفساد مشكلة عميقة في الدولة العراقية ويحتاج مواجهة شرسة لايقافه واقتلاعه ومعاقبة الذين يقفون وراءه، لكن الازمة المالية الحالية لم يتسبب بها الفساد، وإن كان ساهم في تسريع الوصول إليها، بل تسبب بها تراكم سياسات اقتصادية خاطئة وسوء إدارة بدأ من الستينات وتصاعد كثيراً بعد عام 2003.

حتى لو تم ضبط الفساد وايقافه تماماً في خلال الأشهر المقبلة، وهذه مهمة مستحيلة، وافترضنا توفير الدولة20٠ مليار دولار سنوياً عبر هذا الضبط، فلن يكفي هذا المبلغ لتغطية الرواتب والمعاشات أكثر من ثلاثة أشهر.

ستؤخر المكافحة الناجحة للفساد الانهيار فقط، لكنها لن تمنعه. مع ذلك فإن هذه المكافحة ضرورية، ليس لأسباب اقتصادية فحسب، بل ايضاً، لأسباب أخرى أهم، قانونية ومؤسساتية وأخلاقية. 

 من دون تنشيط حقيقي وجاد للقطاع الخاص، وادخال اصلاحات بنيوية عميقة على عموم الاقتصاد تتضمن تقليل دور الدولة في إدارته وهيمنتها عليه وتخليصه من الريعية وصولاً الى تحديثه وتنشيطه وربطه بالاقتصاد العالمي، لا حل سريع في الأفق يجنب البلد انهياراً اقتصادياً حتمياً. لم تعرض خارطة طريق عراقية للخروج من الازمة الحالية سوى ما احتوته الورقة البيضاء التي انتجها فريق حكومي متخصص. تنطوي هذه الورقة على رؤية معقولة للحل يستغرق تطبيقها من ثلاث إلى خمس سنوات، ونصت على اجراءات مؤلمة ومهمة، لكنها ضرورية للعلاج. حظت رؤية الحل هذه بدعم مؤسساتي دولي، لكنها لم تخضع لنقاش عام عراقي هاديء ومنطقي، بعيداً عن الإثارات الشعبوية والمثاليات الاخلاقية العمومية والمناكفات السياسية التي عادةً ما تكون الحقيقةً ضحيتها الأولى. حان الان وقت النقاش العقلاني لصناعة حلول مستدامة تجنب البلد كارثة مقبلة لن تنتظر طويلاً.