نزعم ولا نجزم، أن النظام الدولي هو في آن واحد منظم وفوضوي، فهو منظم بما يعني أن السلوك الفردي للدولة ذات السيادة يخضع لقواعد تحدده جزئيا، ومن جهة ثانية، فالنظام الدولي هو فوضوي بمعنى أن مبدأ المساواة بين الدول كبيرها وصغيرها، والذي نص عليه ميثاق منظمة الأمم المتحدة، لا يجعل دولة متفوقة من الناحية القانونية، من أجل تمثيل المصلحة العامة في المجتمع الدولي.
ولا توجد شريعة دولية لتأطير أعمال الدول الحريصة كل الحرص على سلطان إرادتها، فالدولة السيدة لا تقبل بالخضوع للقانون إلا إذا وافقت على مفاعليه.
كانت المعاهدات الدولية والأشكال الأخرى للاتفاقيات الدولية موجودة علي مدى التاريخ المُدّون، فقد ظهرت المعاهدات في شتى الأحوال، بظهور الجماعات السياسية المنظمة التي دفعت بقوة الأشياء إلى الدخول في علاقات ما بين بعضها البعض.
وفي العصور الحديثة، اعتمد الكتاب ورجال السياسة أكثر ما اعتمدوا على قواعد القانون الخاصة بالتعاقدات بين الأفراد لتطوير العلاقات المبادئ الخاصة بتنظيم الترتيبات التعاقدية بين الدول.
حاليا، وأكثر من أي وقت مضى، تُشَكّل المعاهدة الإرادة الأساسية المتميزة لعلاقات التعاون بين الدول، وتلجأ الدول إليها في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والبيئية والعلمية، كما تشكل أحد الطرائق التقليدية لتَكَوّن القانون الدولي، فالمعاهدات الدولية تعد أحد أهم مصادر القانون الدولي وفقا للمادة 38 من نظام محكمة العدل الدولية.
المعاهدة هي تعبير عن إرادات متطابقة، صادرة عن أشخاص القانون الدولي المتمتعين بالأهلية المطلوبة، ومن أجل إنتاج آثار قانونية محكومة بواسطة القانون الدولي.
ولا تعد التسمية التي تطلقها الدول الأطراف في المعاهدات الدولية عنصرا أو ركنا حاسما للقول بوجود معاهدة دولية، فالمصطلح لا يحسم طبيعة اتفاق أو التزام دولي، وقد أكّدت على ذلك المحكمة الدولية الدائمة للعدل لمنظمة عصبة الأمم السابقة، فضلا عن محكمة العدل الدولية لمنظمة الأمم المتحدة في قرارات قضائية عديدة.
إن تسجيل المعاهدات الدولية ليست فكرة جديدة، وبالعودة للحرب العالمية الأولى وما شاب الإرهاصات الأولى لاندلاع الحرب من إبرام معاهدات تحالف سرية، والرفض الشديد الذي أصدره الرئيس الأميركي في ذلك الوقت وودرو ويلسون الذي دعى إلى ضرورة تسجيل ونشر المعاهدات الدولية لاطلاع الرأي العام العالمي بها، فأتت المادة الثامنة عشرة من ميثاق العصبة المنهارة "عصبة الأمم" لتنص على: "كل معاهدة أو ارتباط دولي تعقده دولة عضو في عصبة الأمم من الآن فصاعدا يجب تسجيله لدى الأمانة العامة ونشره في أقرب وقت ممكن".
وبعد نيف وخمس وعشرون عاما أتت المادة 102 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تنص على التسجيل الإجباري.
سبق أن قضت محكمة العدل الدولية الدائمة لعصبة الأمم: "إن الدولة العضو التي تتخلف عن تسجيل معاهدة مبرمة مع دولة غير عضو، تكون مُقصرة في واجباتها تجاه عصبة الأمم، و بالتالي لا يمكنها أن تستند إلى تلك المعاهدة غير المسجلة، أمام الجمعية العامة أو المجلس أو أي منظمة كانت، تابعة للعصبة".
لكن تخلف الدول المتعاهدة عن إيداع وتسجيل معاهداتها الدولية المبرمة لدى المنظمة الدولية، لا يُفعّل المبدأ القانوني السالف ذكره بصدد إلزامية تسجيل المعاهدات الدولية لدي المنظمة الدولية، فلا يعدم شرعية وحجية هذه المعاهدات تجاه المنظمات والهيئات الدولية خارج تلك التي تتطلب ذلك الموجب الدولي "تسجيل المعاهدة الدولية".
وبخصوص التفرقة بين مفهوم الاتفاق غير المنشور ومفهوم الاتفاق السري، أقرت محكمة التحكيم المنشأة للفصل في النزاع المتعلق بتعيين الحدود البحرية بين غينيا بيساو والسنغال، " أن عدم تسجيل اتفاق عام 1960 بين فرنسا و البرتغال ليس سببا حريا بالقبول بمنع الفريقين من التذرع به أمامها" ، أيضا كشفت محكمة العدل الدولية عن حقيقة قانونية حاكمة في هذا الصدد، وذلك في معرض النزاع الإقليمي حول السيادة البحرية بين قطر و البحرين.
لذلك فزعم وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، فاتح دونماز، أن تسجيل منظمة الأمم المتحدة مذكرة التفاهم البحرية الليبية التركية، يعزز سياسة بلاده أكثر في البحر المتوسط، لا تعدو إلا أن تكون َترهات َجهُولة ومُرسلات كَذُوبة، فالوزير التركي، يجهل أن الأمين العام للأمم المتحدة بوصفه المودع للمعاهدات الدولية لا يحوز اختصاصات سياسية للفحص الموضوعي للمعاهدات التي تطلب الدول إيداعها وتسجيلها ونشرها على الدول أعضاء المنظمة بواسطة الأمين العام للمنظمة.
يُدرك الُثقات من الفقهاء المدة الطويلة التي استغرقتها إجراءات الإيداع و التسجيل والنشر بواسطة الأمانة العامة للأمم المتحدة لمذكرة التفاهم الليبية التركية المشار إليها، وذلك بالرغم من حيوية بل تفرد معاهدات تعيين الحدود الدولية بين الدول، لكن لم تستغرق الأمانة العامة ذات المدة بخصوص ذات الإجراءات لاتفاقية تعيين الحدود البحرية المصرية اليونانية المبرمة هذا العام بين البلدين.
صفوة القول، بعد أن قامت منظمة الأمم المتحدة هذا الأسبوع بإعلام كافة الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة رسميا باتفاقية تعيين الحدود البحرية المصرية اليونانية تكون كلا من مصر واليونان استوفتا المتطلبات القانونية بموجب ميثاق المنظمة، حتى تتمكن الدولتان الدفع بها أمام كافة الأفرع والأجهزة لمنظمة الأمم المتحدة.