الواقع أن النيّة التي أوجدت أسطورة "التّبر"، كانت في المستهلّ التوق للتعبير عن حقيقة الزهد؛ ولكن الزهد، على ما يبدو، لن يعدم أن ينتهي لمديح الحبّ، عندما يبلغ تخوم حدوده القصوى. وهذا هو ما برهنت عليه تجربتي مع هذه الأمثولة، التي روى لي أحداثها خلّي في الروح، وشقيقي في الدمّ "آلا الكوني" في إحدى زياراته لي في موسكو أثناء اعتزالي في مرتفعات "فوروبيوفا" لأعاند الفصل الثالث من منازل اغترابي الطويل.

وأحداث الرواية بسيطة تروي سيرة الطيف "أوخَيَّد"، الذي اعتاد أن يحيا راحلاً بلا توقّف، ينزل الواحة، حيث يقيم شقيقي، بين الفينة والأخرى، ممتطياً جملاً هزيلاً، تحوّل هيكلاً عظميّاً من فرط الأسفار، والصوم عن الطعوم.

ولكن الرجل لا يمكث في الواحة سوى يومين، ليشدّ الرحال من جديد، مُيَمّماً صوب صحراء اللانهاية، فلا يجد السكان ما يجودون به على الضيف سوى بعض المؤن الغذائية التي اعتاد هذا الطيف أن يتخلّص منها، بدفنها في التراب ما أن يغيب عن الأنظار، ليواصل ترحاله الخالد خاوياً. هذه العادة هو ما استوقفني في هذا النموذج، وسكنني بقوّة، ولم أجد حيلةً للتحرر من وزره سوى باستجوابه روحياً، لأنه ترجم لي، بمسلكه الحرفيّ، وصيّة إمام الزهد الأكبر علي ابن أبي طالب القائلة: "لقد استعنّا على قضاء حوائجنا بالإستغناء عنها!".

الإستغناء عنها؟!

يا لها من تعويذة عصيّة، ضاقت بحمولتها هذه الوصيّة، التي لا تليق إلاّ بمن أوتوا إرادة الأنبياء. الإستغناء عن حوائج الدنيا، عن حُطام دنيا، في منطق الإمام علي ابن أبي طالب، والإستغناء حتى عن القُوْت، في منطق طيف الواحات المهاجر أوخيّد، كأنّه، يزكّي بروح العفوية البريّة، حكمة إمام الحكمة دون أن يدري، بل ويمضي بها شوطاً أبعد، عندما يحترف الإستغناء حتى عن طعومٍ هي قُوْتٌ للبقاء قيد الحياة، ولكنه يتحوّل في عنق مُريد الحرية هذا وَهَقاً، غلّاً، مهما كان حاجةً، يكفي أنه إحسانٌ تلقّاه من كفّ إنسان، ليغدو الخلاص من الهبة هو الحاجة، هو الخلاص، هو الفردوس حتى لو دفع الحياة ثمناً لهذا العفاف. فهو يستطيع الإستغناء عن أيّ شيءٍ، الإستغناء حتى عن الوجود، باستثناء شيء وحيد صار في رحلته حُجّة وجود، وهو رفيقه، وعزاء اغترابه: الجمل! من هنا يتراجع بُعد الزُّهد في الملحمة، لينتصب شبحٌ مهيبٌ هو: الحُبّ! فكل شيء نستطيع أن نستغني عنه، ولكن الحبّ وحده هو ما لا غنى لنا عنه، ما لم نلفظ أنفاس النزع الأخير.

هنا يشُبّ حريق الدراما.

لأن الحبّ علاقة. والعلاقة رهانَ خطرٍ، بما أنها رَهنٌ للقلب في كيان آخر، ليستعر الصدام بين الحاجة إلى حريةٍ لا وجود لها إلاّ في الموت، وبين ضرورة وجود علاقة هي عزاء في محنة حضورٍ، هو اغترابٌ وأيّ اغتراب. فيبقى الخلاص حُلُماً يسكن باطناً، لا يلبث أن يترجَم بحرف الكابوس المكرور في منام البطل، متمثّلاً في المشي على سطح بيتٍ قديم، آيلٍ للسقوط مع كل خطوة. وهو الحلم الذي يلعب دور البطولة في السيرة، والذي لم ينتبه له النقد، لا العربي، ولا الأجنبي، برغم حضوره طوال الوقت، إلى أن يبلغ مفعوله الذروة في نهاية الرواية، لحظة إنفصال الرأس عن الجسد، ليتزلزل بنيان البيت بقارعة غيبيّة، ليتبدّى في جوفه ذلك الكائن المجهول، الذي ظلّ البطل يستشعر وجوده دوماً، دون أن يكتشف له هويّةَ. ولكن هذا الكشف كان بعد فوات الأوان، لسببٍ بسيط وهو أنه، بعد انفصال الرأس عن الجسد، لن يستطيع أن يُحدّث أحداً بما رأى!

بهذه العبارة يتنزّل الستار عن مسرح السيرة. وهي العبارة التي لم تُفهَم أيضاً من قبل النقد، سيّما الأجنبي، ربّما لجهلٍ بسلطة العبارة. سلطة اللغة كبرهانٍ على حضورٍ قيد الوجود الحرفيّ، في مقابل حضور البطل في حرية الأبعاد القصوى، في رحاب البُعد الضائع، في بلاط الموت، حيث لن ينعدم وجود الحاجة لاستخدام اللسان، لأن الحبّ الحقيقي لا خلود له إلاّ في هذه الحرية القصوى، في الموت!

والسؤال هو: كيف ذهب المطاف بالمؤلف، بحيث تمرّد على الخطّة القاضية بتأليف أمثولة في ميتافيزيقا الزهد؟ أليس الزهد هو الخطوة الأولى في سبيلٍ وجيعٍ وتراجيديّ بطبيعته كحرية الأبعاد القصوى؟ ما الدّاعي لاستحضار قيمة كالحبّ، لتكون بمثابة الشريك، بل الشَّرَك، في الصفقة الفاجعة؟

تلك ضرورة فرضتها قوانين الدراما الوجودية، قبل أن تفترضها نظريات الدراما الأدبية. فالحرية، حرية الحدود القصوى تحديداً، لا تكتمل بدون الإستقالة من أعظم إحساسٍ إنسانيٍّ في هذا الوجود، وهو: الحبّ! الحبّ المسكون بعقلية الأبعاد القصوى، الحبّ عندما يتحرّر من فخّ الحسّ، لينتقل إلى خانة الحدَس، كي يستعير أحقيّة الإنتماء إلى الحبّ الإلهيّ، بحيث تنمحي الأضداد في هذا المقام، ليغدو التحرّر من حبٍّ، فراراً إلى حبّ. يغدو قبول الموت فداءً لـ"الأبلق"، حضورٌ في حبّ الله، بفقدان حبّ الحبيب الذي تحرّر أيضاً، لينهض الحبّ الأسمى، في رحاب فردوسٍ لا يعود منذ الآن ضائعاً، ولكنه يستعير بالتضحية هويّة: الفردوس المستعاد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدّمة المؤلّف للطبعة الثانية لرواية "التبر" باللغة الفارسيّة.