الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تمر بها تونس منذ سنوات، والتي ازدادت حدتها وأثرها بعد تفشي وباء كورونا، تتزامن في الأسابيع الأخيرة مع صعود لافت للصراعات السياسية ذات الملمح الهوياتي الديني.

مفارقة تونسية أن يتفرغ ساسة تونس لجدل الهوية بدل الانكباب على تدبر أجوبة عاجلة لأسئلة الاقتصاد. على أن صعود الخطاب الهوياتي واستدعاء قضايا محسومة دستوريا، من قبيل قضايا المرأة ونصرة الإسلام وغيرها، ليس عملا بريئا ولا معزولا عن السياقات السياسية الراهنة.

خَطَب محمد العفاس نائب ائتلاف الكرامة، وهو تيار سياسي إسلامي حليف لحركة النهضة، تحت قبة مجلس نواب الشعب، في جلسة مخصصة لمناقشة مشروع ميزانية وزارة المرأة والأسرة وكبار السن، وقال إن "حرية المرأة لدى المتاجرين بقضاياها هي حرية الوصول للمرأة وانحلال وفسوق وفجور".

أثار تصريح النائب جدلا كبيرا لا فقط لتطرفه وغلوّ نظرته لقضية المرأة، بل أيضا لأنه أصدر منطوقا متناقضا مع مقتضيات دستور عام 2014، وهو الدستور الذي يتظلل الجميع بظلاله، وهو الدستور الذي قبل العفاس وصحبه بالانضواء تحت قوانينه بمجرد تقدمهم للانتخابات في إطار منظومة قانونية وانتخابية حددها الدستور.

ركن العفاس وائتلافه إلى الشريعة وألقى بالدستور والقوانين عرض الحائط. لكن تصريح العفاس، وبقدر ما أثار من ردود أفعال، لم يكن معزولا، بل كان مصحوبا بجملة مواقف وتحركات تندرج جميعها في سياق العزف على وتر الخطاب الهوياتي المتشنج، الذي خال التونسيون أنهم ودعوه، بعد أن أدى خلال عامي 2012 و2013 إلى سلسلة أحداث إرهابية، بعد أن تُرجم ذلك الخطاب المتشنج إلى أفعال وعمليات إرهابية.

في الإطار نفسه قامت مجموعة أخرى تنتمي إلى "حزب الرحمة" (حزب إسلامي) بزعامة عضو مجلس النواب سعيد الجزيري صاحب إذاعة القرآن الكريم الخاصة غير الحاصلة على الإجازة، بمحاصرة مقر الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، (هيئة دستورية) "نصرة لإذاعة القرآن الكريم ولكتاب الله" وفق ما ورد في بيانهم.

القضية قانونية في المقام الأول، ذلك أن الإذاعة تعمل منذ سنوات دون ترخيص قانوني من الجهة المخولة بذلك، لكن الجزيري وأتباعه اعتبروا الخطايا والتنبيهات التي أصدرتها الهيئة الدستورية "محاصرة للقرآن الكريم وتعديا على الإسلام".

وفي السياق نفسه من استعمال الدين لغايات سياسية، حصل اعتداء نواب ائتلاف الكرامة داخل قاعة البرلمان على نواب طالبوا بإدانة خطاب العفاس (إمام جامع عُرف بدعواته للجهاد في سوريا) المسيء للمرأة والمتعدي على الدستور، لكن نواب ائتلاف الكرامة تعاملوا مع مطالب برلمانية سلمية ومع النقاش السياسي بردود عنيفة، وصلت حد الاعتداء البدني على نائب من التيار الديمقراطي.

خطاب العفاس المشتق في أغلب مفاصله من قاموس أحكام الشريعة، الذي أعلنه في فضاء سياسي مدني وقانوني (البرلمان)، والشعارات التي رفعها أنصار حزب الرحمة أثناء حصارهم لمقر الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، إضافة إلى التعامل العنيف مع مواقف سياسية، والتي لاقت جميعها تفهما وتبريرا ودفاعا من حركة النهضة، هي جميعها دلائل على الإفلاس السياسي وفقر البرامج والعجز عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ترزح تحتها البلاد منذ سنوات.

ارتفاع منسوب التكفير والخطاب الديني المتشنج، ليست سوى محاولات للتملص من المسؤولية السياسية، وقرائن على أن التيارات الإسلامية في تونس، التي تمثل قسما كبيرا من الأغلبية الحاكمة، (النهضة وائتلاف الكرامة وبعض الهوامش المتحالفة معها) تعيد إنتاج تجربة 2012 و2013، عندما لعبت على الوتر الديني وغازلت الوجدان المتديّن لدى غالبية الشعب التونسي.

لا تملك الأحزاب والتيارات الدينية في تونس، النهضة كما ائتلاف الكرامة، برامج اقتصادية واجتماعية متينة وقابلة للتطبيق، بل تجترّ المقولات الليبرالية القديمة للنظام السابق، وتواظب على اعتماد منوال التنمية الذي ثَبُتَ عقمه طيلة سنوات، ولذلك "تضطرّ" إلى إطلاق وعود انتخابية "حالمة" تعي منذ البداية أنها غير ممكنة التحقق، من قبيل تحقيق نسب نمو كبيرة أو تدارك مستويات البطالة القياسية في البلاد، أو محاربة الفساد.

عجزت النهضة وحلفائها عن تحقيق أي من تلك الوعود، بل تحالفت مع الكثير من رموز النظام القديم، مع أنها بنت حملاتها الانتخابية على معاداتهم، وتحالفت مع رموز الفساد الذي طرحت على نفسها مهام محاربته، وفي النهاية استشعرت إفلاسها السياسي، وتمثلت امتعاض الناس من حجم الهوة بين منشود الإسلاميين وموجود الواقع، فكانت العودة المنتظرة إلى مربع الهوية الدينية المهددة في تونس، بعد أن أَفِلَتْ مقولات تحالف اليسار العلماني مع رموز النظام القديم (والمقصود أساسا عبير موسي التي تجاهر بمعاداة الإخوان).

الخطير في هذا الخطاب أنه يقسم التونسيين إلى "مؤمنين وعلمانيين"، ويغتال كل قيم الدستور التي شددت على مدنية الدولة وعلى التأسيس لجمهورية الحقوق والحريات بلا تمييز ولا عنف، والأخطر من ذلك أنه يعيد النقاش العام إلى مرحلة ما قبل الدولة وما قبل أشكال التنظم الحديثة، ولكنه (للمفارقة) يستعمل آليات الدولة ومنابرها للتعبير عن ذلك، ويستغل حرية التعبير التي يكفلها الدستور.

لم تتدخل الدولة للدفاع عن ثوابتها القانونية والمدنية ضد هذه الردة الإخوانية العارمة، فكان أن صمتت وزيرة المرأة في مواجهة خطاب العفاس، ولم تصدر الحكومة بيانا يعيد الأمور إلى نصابها، وتأخرت الرئاسة عن إصدار موقف من المسألة، وكان طبيعيا أن يذود رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، عن خطاب العفّاس باسم حرية التعبير، ولذلك فإن القوى المدنية، الكثير من الجمعيات والمنظمات وبعض الأحزاب، وحدها من تخوض الصراع ضد هذه التيارات التي تجيد العزف على الوتر الديني كلما استشعرت خطرا سياسيا أو انتخابيا قادما.

المحطات التاريخية السابقة التي شهدت فيها تونس تركيزا على الصراع على الهوية والفرز على ذلك الأساس، أكدت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى العنف والاغتيالات.

شهدت تونس ذلك خلال عامي 2012 و2013، ثم خلال العام 2018 على خلفية النقاش حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذي تضمن مقترحات من بينها إقرار المساواة في الإرث، وإلغاء عقوبة الإعدام بهدف ملائمة التشريعات التونسية مع دستور البلاد الجديد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، والتي أدت إلى توتر سياسي أثر على المشهد الانتخابي لعام 2019.

نقطة الضوء الوحيدة في هذا المبحث، تتمثل في وجود إجماع سياسي وشعبي على أن هذه القضايا الهوياتية، هي تعبير على إفلاس الساسة وعجزهم عن تدبر البرامج والحلول الحقيقية، وهي محض تحويل للأنظار عن المضامين الحقيقية التي تحتاجها البلاد في هذا المفصل العسير من الأزمة.

ولذلك فإن المطلوب اليوم هو بلورة مشروع عقلاني للسياسة وللاقتصاد، يمر عبر تكريس عقلنة الدولة بدل أخونتها، ويطرح على نفسه إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية الخانقة، ولكن هذا لن يحصل دون إيقاف الردة الإخوانية التي تتم بأياد شعبوية من ائتلاف الكرامة وما يجاوره.