إن الرجل التقى بالفصائل في العراق وأقنعها بتمديد الهدنة التي أعلنتها سابقا لوقف استهداف مصالح أميركية (خصوصا السفارة في بغداد)، وإنه في زيارة "سرية" أخرى إلى لبنان التقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله طالبا منه عدم قيام حزبه بأي أنشطة من شأنها استفزاز إسرائيل.

وعلى الرغم من ركاكة تلك التسريبات، إلا أن هدفها تقديم إيران بصفتها الطرف الممسك، حصرا، بقرار الحرب والسلم في العراق ولبنان من جهة، وبعث رسالة إلى العالم، لا سيما الولايات المتحدة، بإدارتيها، الحالية، وبالأخص المقبلة، بأنها، إذا أرادت، صانعة للسلم ورادعة لما يمكن أن يشكل أخطارا على المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.

لا يستحق طلب خفض التوتر أو التصعيد من فصائل إيران في البلدين أن يقوم خليفة قاسم سليماني بزيارة البلدين و "التباحث" مع الحلفاء، ذلك أن أمرا عسكريا كهذا، مثله مثل أي أوامر أخرى سابقة، تصدر من خلال قنوات الاتصال. 

وواقع الأمر أن زيارة الجنرال المعلنة للعراق، والتي شملت لقاء مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والزيارة السرية، المسربة أخبارها، إلى لبنان، هدفها تنسيق التحركات العسكرية المحتملة لإيران وفصائلها، والتلويح للعالم بالأيادي الضاربة التي تمتلكها طهران في البلدين مرورا بسوريا، بعد أيام على قيام الحوثيين، بصفتهم قوة ضاربة لإيران في اليمن، باستهداف صاروخي لمنشأة لآرامكو في جدة في السعودية.

وفي لقاء قآاني برئيس وزراء العراق ما يراد له التأكيد أن إيران ما زالت تتعامل مع العراق بصفته محافظة إيرانية تدار من خلال جنرال، وأن لقاء قائد الفيلق بالكاظمي (والذي وصف بأنه كان عاصفا) هو القاعدة، فيما زيارات وزير الخارجية والسفراء هو الاستثناء. وجولة الرجل، في بعديهما العراقي واللبناني، تدبير مطلوب هدفه أن توجه طهران رسائل جديدة للعالم بأنه في بغداد وبيروت فإن "الأمر لي".

لا تتشكل حكومة في لبنان طالما أن حزب الله لا يعطي الضوء الأخضر لذلك. والضوء الأخضر الأصلي تمنحه وتحجبه طهران. وما المعرقلون المعلنون لتشكيل تلك الحكومة، سواء ميشال عون الرئيس أو جبران باسيل الصهر أو غيرهم، إلا أعذارا تختفي حين تريدها إيران أن تختفي. وما تحرك السيد مقتدى الصدر و "سراياه" في العراق، إلا مفصل جديد تشجع عليه طهران من أجل استعادة الشارع في البلاد وإعادة العراق إلى السكة التي تمتد صوب إيران. فإذا ما أراد اللبنانيون والعراقيون إقامة دول طبيعية التواصل مع العالم والجوار، فإن ذلك لا يتم إلا من خلال إبرام الصفقات مع طهران.

يضرب الصدر على الطاولة وتهاجم "سراياه" المعتصمين في الناصرية فتقتل منهم من تقتل تاركة لحكومة الكاظمي عدّ القتلى ومداواة الجرحى وتشكيل اللجان التي لا تنتهي للتحقيق. تريد طهران أن تنتهي من ظاهرة الشارع في العراق بعد أن تم لها ذلك في لبنان وتم لها ذلك بالقوة القهرية الساحقة في إيران. لا يطيب لطهران حديث الدولة والمواطنة والسيادة والاستقلال ومكافحة الفساد، فذلك رجس من عمل الشياطين والعملاء. 

يكمن ترياق مقتدى الصدر في العودة إلى "ترتيب البيت الشيعي"، وتذكير الشيعة في العراق بأنهم شيعة، وعنوان الشيعة الوحيد هو إيران، قبل أن يفكروا في أن يكونوا مواطنين لبلد مستقل إسمه العراق. 

وإذا ما نجحت أحزاب إيران الدينية في العراق في ترتيب "بيتهاالشيعي"، فإن ذلك قد يعيد ترويج تمارين لترتيب البيتين السني والكردي على النحو الذي اعتمد منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003. وفي ذلك تحضير للتعامل مع جو بايدن العارف الجيد بأحوال العراق، وهو الذي تبرع يوما بمشروع لتقسيم العراق إلى أقاليم ثلاث، شيعي في الجنوب، سني في الوسط، كردي في الشمال.

وفي التأجيل الملتبس لمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وفي الحركة العسكرية الأميركية (انسحابا من أفغانستان والعراق أو تحريكا لقاذفات  B-52 العملاقة ولحاملة الطائرات الأكبر في العالم USS Nimitz صوب المنطقة) ما يرفع من منسوب التصعيد ويروّج لسيناريوهات حول الأمر. لا تستبعد إيران هذا الاحتمال ولا يقلقها كثيرا، ذلك أن أي ضربات جديدة ستضاف إلى ضربات تلقتها خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك تفجير مفاعل نطنز واغتيال جنرالها لتصدير الثورة قاسم سليماني وقائد مشروعها النووي الطموح محسن فخري زاده. 

لن تحيد طهران عن بوصلتها في عقد صفقة كبرى مع إدارة بايدن في واشنطن. من أجل ذلك لن تنجر إيران إلى الحرب التي تريدها إسرائيل (وفق ما تردده طهران). وسيجول قآاني مبردا حمية أتباع "حرسه الثوري"، موحيا، بالتصريح والتسريب، أن على واشنطن أن تضع على طاولة أية مفاوضات أن إيران رقما صعبا في مسائل السلم والحرب والقلاقل والاستقرار في المنطقة.

بيد أن المراقب لحسابات إيران لا بد أن يستنتج بسهولة أن "الصبر" في حياكة السجاد -الذي لطالما وصفت به سياساتها- تفضي يوما بعد يوم إلى تقادم الصنعة وفناء الحائكين.