وإذا ما أضفنا البعدين التاريخي والحضاري وتنوع قماشته الاجتماعية وتعدد مكوناتها، فإن إيران تمثل نموذجا لما يمكن أن يكون عليه بلد من تألق ونجاح.

لكن نظام طهران لا يريد ذلك. في الأمر مفارقة عجيبة. بيد أن السر يكمن في طبيعة نظام الولي الفقيه وعقائد حرسه الثوري مند قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979.

لم يُقمْ روح الله الخميني دولته إلا من أجل إقامة دولة على مقاسه تمشي وفق ما أفتاه في أمر الدولة وعلاقتها بالدين، وخصوصا برجال الدين.

لم يسمح الرجل بأن يستمر الإيرانيون في التصديق بأن ثورتهم، كإيرانيين على تعدد قومياتهم، هي من أعادته من منفاه الفرنسي وهي من أطاح حكم الشاه محمد رضا بهلوي. انقلب سريعا على يساريي الثورة وفتك بزعمائهم، ونشر "محاكم التفتيش" تسيل دم معارضيه أو بقايا المؤمنين بدولة وطنية عصرية تلتحق بركب العصر.

لا تريد دولة الولي الفقيه نموذج ازدهار بالمعنى المتعارف عليه، ذلك أن الانخراط في ذلك السبيل يسحب لزومية وجود نظام إسلاموي، وبالتالي يزيل الأسباب التي تبرر بقاء الولي الفقيه قابضا على رقبة إيران وكل التيار الشيعي الموالي له في العالم.

والحال إن "الثورة" في إيران ليست وسيلة لتحرير الأرض وفق نموذج الصين وفيتنام وفلسطين والجزائر، وليست وسيلة إزالة أنظمة سياسية متقادمة وفق ما شهدته بلدان شرق أوروبا إثر تصدع جدران الاتحاد السوفياتي مثلا، بل هي غاية وفق جانب من منظومات نيقولا مكيافيلي لحكم العباد.

لا يسعى نظام الولي الفقيه إلى إقفال ورشة الثورة والارتقاء إلى مستوى الدولة الحديثة المنتمية إلى المنظومة الدولية الراهنة. الازدهار والبحبوحة والوصل مع العالم، يغذي لدى الإيرانيين وعيا سيدفعهم إلى المطالبة بمنظومة عادلة لتقاسم السلطة والثورة ونسج علاقات صحية سليمة مع العالم.

أظهر الإيرانيون، خصوصا بمناسبة التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015، توقا للوصل مع العالم والانجذاب خصوصا نحو المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

لا يريد نظام إيران السياسي، بوليه وحرسه، بمحافظيه وإصلاحييه، برئيس الجمهورية وحكومته، العبث بعقيدة الثورة لصالح عقيدة الدولة. ولأجل حماية الثورة في إيران يجري العمل على تصديرها ومد أذرعها وجعل المواجهة تجري بين وكلائها وأعدائها.

وإذا ما رعى مرشد الجمهورية علي خامنئي المفاوضات التي أجراها الثنائي الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف مع مجموعة الـ 5+1 للوصول إلى الاتفاق النووي، فذلك كان يهدف إلى إقرار العالم بإيران "ثورة" يساهم الاتفاق في الترويج لثورتها، على عكس ما زين لباراك أوباما من أن أمر الاتفاق سيدفع إيران لولوج عصر الدولة.

والحال أن العالم، حتى الآن، يتعامل مع إيران بصفتها أمرا واقعا، ويقارب الشأن معها بصفتها ثورة وجب التخفيف من تصديرها. سبق لجو بايدن أن أظهر عداء للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووعد بالعمل على إزاحته بالانقلاب، قبل أن يصوب تلك اللهجة بالحديث عن أن السعي يجري من خلال صناديق الانتخابات. لم يسبق لأي مسؤول أميركي أن تحدث علنا عن إسقاط النظام في إيران.

وإذا كان أمر ذلك كان غائبا في عهد أوباما، من ضمن توفير أجواء التواصل والاتفاق، فإن الرئيس دونالد ترامب، ورغم ما أظهره من عدائية ضد إيران، لم ينفك يكرر الدعوة إلى مفاوضات مع نظام الثورة لإبرام اتفاق جديد، مكررا ووزيري خارجيته ودفاعه عدم وجود أي خطط لإسقاط هذا النظام.

والحال أن كل العمليات الأمنية والعسكرية، الإسرائيلية والأميركية، بما في ذلك عملية اغتيال محسن فخري زاده، لم تهدد يوما كينونة النظام الإيراني ووجوده. استمرت إيران في استيعاب الخسائر التي أُنزلت بها على أرضها، وبأذرعها في المنطقة والعالم، دون أن تخاطر بأي رد يتجاوز مستواه خطوطا حمر، يستدعي قرارا بإسقاط النظام.

لم تملك واشنطن برنامجا لإسقاط النظام في طهران. وفي غياب ذلك بقي النظام في إيران قادرا على التعايش مع حقب العقوبات الأممية ثم الأميركية مؤخرا. وفي غياب ذلك، سَهُلَ على نظام الحكم ومؤسساته الأمنية الفتك بأي انتفاضة شعبية أو تحركات احتجاجية. وفي غياب ذلك بقيت الإدانة من تلك الدولة والاستنكار من دولة أخرى للممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان، تمارين شكلية لم تقلق يوما نظام البلد ومرشده.

لا شيء حتى الآن، لا داخليا ولا خارجيا، يجبر إيران على إسقاط ثورتها. وما وعد به روحاني من رد على مقتل عالمها النووي، في الزمان والمكان المناسبين، يوحي للعالم بجهوزية إيران على استيعاب خسارة جديدة تضاف إلى خسائرها، ويوحي أيضا، وفق ما نقل عن مقرب من خامنئي، أن إيران المتنبهة للفخ الإسرائيلي لاستدراجها إلى حرب كبرى لن تقع أبدا في هذا الفخ.

لن ترد إيران، كما لم تفعل سابقا، وإن فعلت فسيكون عبر وكلائها بعيدا عن إيران، فهي صدرت لهم ثورتها من أجل هذه المهمة بالذات. وستذهب في عهد بايدن للقبول بما ترفعت عن قبوله في عهد ترامب، طالما أن أي اتفاقات جديدة، مهما توسعت مساحاتها، لن تنال من الثورة نظاما أبديا لا أحد يخطط لإسقاطه.