لا تنفك قطر تنشر سمومها في العالم العربي، ولعل آخر فصول فتنتها التي جرت بها الأقدار، كان ذلك اللعب على أوتار المتناقضات التونسية، ومن خلال الزيارة الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد إلى الدوحة في الأيام القليلة الماضية.
يحتاج حديث الفتنة القطرية المستمرة والمستقرة، عبر ثلاثة عقود خلت، وفي تقاطعاتها مع تونس، الإجابة عن العديد من علامات الاستفهام، في المقدمة منها ما يتعلق بالرئيس التونسي نفسه الذي تكشف الأحداث عن ولائه وهواه الإخواني، رغم أنه قدم نفسه للتونسيين على أنه علماني مستقل، الأمر الذي يتسق وفكر التقية، والمراوغة المشهورة والمعروفة بها جماعة الإخوان المسلمين.
ذهب قيس سعيد إلى قطر وهو يدرك تمام الإدراك أن لا شيء مجاني في هذه الحياة، وأن ثمن إنقاذ الدوحة لبلاده اقتصاديا سيكون مكلفا جدا.
تبين الأرقام الاقتصادية أن تونس تعاني اختلالا كبيرا في موازنتها للعام المقبل يصل إلى 8 مليارات دينار، ولهذا فهي في حاجة إلى دعم الأصدقاء والأشقاء للقفز على تلك المعضلة.
كعادتها تضع الدوحة السم في العسل، وهذه المرة من خلال تقديم وديعة لتونس قيمتها 500 مليون دولار، وهنا نؤكد أنها وديعة وليست هبة أو منحة.
وعلى الرغم من طبيعة المساعدة القطرية التي لا يمكنها تقويم مسارات الاقتصاد التونسي، إلا أن الدوحة وضعت شروطا تعمق الشرخ الداخلي في النسيج المجتمعي التونسي، وذلك من خلال الربط بين هذه الوديعة، وبين مسألة تنقية الأجواء بين قيس سعيد ورئيس حركة النهضة؛ رئيس البرلمان راشد الغنوشي.
هنا، بمعنى أو بآخر، يبدو المشهد جليا. من يريد الوديعة، عليه بلورة مواقف جيدة من جماعة الإخوان المسلمين؛ الذراع الحقيقية لقطر في تونس.
لم تكن محاولة الاختراق القطرية عبر طرح الوديعة الممجوج لتغيب عن أعين بعض من الوطنيين التونسيين، ومنهم رئيس حزب العمال "حمة الهمامي "، الذي اعتبر أن الوديعة طريق غير مباشر للتدخل في شؤون تونس، وأنها لم تقدم بحسن نية أو بشكل مجاني.
عطفا على ذلك كان السفير التونسي السابق إلياس القصري ينبه إلى أن قبول ودائع جديدة من قطر أمر سيفضي في نهاية المطاف إلى تعميق أزمة الديون الخارجية لتونس، ومن ثم ارتهانها للإرادة القطرية.
ولعل المثير في مشهد الفتنة القطرية عبر الأراضي التونسية، استغلال الرئيس التونسي نفسه ليكون أداة شقاق وفراق، لا رمز اتفاق بين الشعب التونسي، فقد عينت قطر قيس سعيد رئيسا لجمعية قطرية تسمى الرابطة الدولية لفقهاء القانون الدستوري، التي ستعقد مؤتمرها الأول نهاية العام المقبل 2021 في تونس.
حين تم إعلان الخبر في قطر، تسارع التونسيون وتنازعوا بعضهم البعض، والتساؤل :" هل يمكن لرئيس دولة أن يتنازل ليصبح رئيس جميعة لا أحد يعرف من وراءها وما هي أهدافها، لا سيما وأن الشكوك دائما وأبدا تثور من حول أي نشاط قطري، وكأن الأمر فصل جديد مشابه لقصة اتحاد العلماء المسلمين الذي تظاهر التونسيون مؤخرا للمطالبة بغلق مقاره على أراضي تونس الخضراء.
التساؤل العقلاني والمنطقي في هذا المقام هو:" ما علاقة قطر بالدساتير من الأصل، وهي البعيدة كل البعد عن أي سياقات ديمقراطية أو حقوقية، تسمح لها بالاقتراب من تلك الرؤى القانونية عالية الهدف غاليته ؟
تسببت زيارة قيس سعيد إلى الدوحة في لطمة كبرى لكبرياء الشعب التونسي الأبي، لا سيما حين رأوا رئيسهم يلاقي ازدراء كبيرا من الأسرة الحاكمة في قطر، فلم يخرج للقائه أمير قطر، بل كلف نائب رئيس وزرائه، ووزير الدفاع بتلك المهمة، الأمر الذي يعد انتقاصا في حق رئيس دولة في ضيافة قطر.
والثابت أن البعد الخلافي الكبير لزيارة قيس سعيد للدوحة، إنما ارتبط كذلك بالتوقيت، فقد جاءت الزيارة في وقت انعقاد الملتقى السياسي الليبي، على الأراضي التونسية، والذي أدت الرشاوى القطرية إلى إجهاض مناقشاته من أجل تقديم طوق النجاة لليبيين، وبات الأمر يمثل فضيحة جديدة مضافة للرصيد القطري الذي يزكم الأنوف.
ما الذي تبغيه الدوحة من قيس بوسعيد وهل وقع الرجل في الفخ قولا وفعلا؟
باختصار غير مخل، كل هدف قطر من تونس هو تأمين شبكات العملاء القطريين على الأراضي الليبية، لا سيما وأن هناك إدراكا لوجستيا قطريا يرى أن تونس هي منصة الانطلاق لإدارة الملف الأمني في ليبيا.
تدرك الدوحة أن القرارات الأمنية التونسية، ومهما يكن من أمر علاقة الرئيس بالغنوشي والإخوان، سوف تمر من عنده، وعليه فإنه لابد لها من أن تحتويه بشكل أو بآخر، لكسب وده، أو على الأقل معرفة مواقفه ومزاجه في الملفات الإقليمية التي تهم الدوحة.
هل في الجعبة القطرية، أهداف ماورائية من تصاعد نفوذ الدوحة وشركائها لا سيما تركيا في تونس؟
يحتاج الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة إلى حديث قائم بذاته، غير أنه وفي اختصار غير مخل، ربما يتحتم علينا الإشارة إلى أن الدوحة تراهن على أن تكون تونس هي قاعدة فكرية ولوجستية لإعادة بناء تنظيم الإخوان المسلمين، ذاك الذي تلقى ولايزال ضربات قاصمة في السنوات الماضية عبر العالم العربي.
القاعدة الإخوانية على الأراضي التونسية لا تستهدف أهل البلاد فحسب، بل تتطلع لأن تكون منطلق العمل في القارة الإفريقية، والقصص المعروفة عن الإرهاب القطري هناك، والمتحالف مع الأغا العثماني المختل والمحتل تؤكد أهمية تونس للقطريين.
والشاهد أنه عطفا على ما تقدم فإن قطر تتلاعب بتونس ضمن مخطط أوسع وأشمل، يمثل محورا جيوسياسيا يراد منه أن يشكل "هلالا إخوانيا " يمتد من ليبيا إلى أوروبا، والقوقاز، مرورا بقبرص، وحوض شرق البحر الأبيض المتوسط.
هذا التفكير على قصر نظره، يتذرع بحالة الارتباك السياسي الأممي من جراء نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية من ناحية، وانشغال أوروبا بمواجهة جائحة كوفيد-19 من جهة ثانية، فيما يغيب عن أذهان الدوحة وتركيا أن الكبار يراقبون في صمت وفي ساعة القارعة سوف تفشل مخططاتهم بطريق أو بآخر.
تتلاعب قطر بالرئيس التونسي، محاولة استغلال علمانيته الظاهرة في إقامة مؤتمرات حوار وجوار مع أوروبا التي تيقظت للأدوار القطرية المخربة على أراضيها، وهناك مقترح مشترك بين قطر وتونس لعقد مؤتمر إسلامي –أوروبي يهدف بحسب الدوحة إلى تحقيق المزيد من الفهم وتجاوز العقبات، ما يؤكد الازدواجية الأخلاقية لقطر الموصومة برعاية الإرهاب حول العالم.
تسارع قطر إلى الداخل التونسي وهي ترى ثورة الحزب الدستوري الحر تتصاعد يوما تلو الآخر رافضة تخاذل الحكومة التونسية مع التنظيمات المشبوهة والمتورطة في تبييض وتمويل الإرهاب ووراءها أياد قطرية لا محالة، ولهذا يرفع التونسيون اليوم شعار "ارحلوا عنا".
إنها تونس الأبية التي تريد الحياة، ولابد للقطريين أن ينجلوا في خاتمة المطاف، مع إرهابهم وأموالهم.