منذ نهاية الحرب الباردة، وكل دراسة للنظام الدولي، تكاد تكون دراسة للسياسة الخارجية الأمريكية، بحكم التحولات التي شهدتها توجهاتها ومواضيعها وأساليبها طوال العقود الثلاثة الماضية.
ومن ثم فإن قراءة بعض نقاط التقاطع بين وثيقتي "بيكر-هاملتون" وتقرير الأمن القومي الأمريكي للعام 2010، إلى جانب المقالة الهامة التي نشرها رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس عام 2006، تؤكد أن ثمة تحولا مهما شهده العالم أنهى مفهوم "القوة العالمية العظمى"، الذي تنافست من أجله الدول منذ الثورة الصناعية، وفسح المجال أمام كل دول العالم لكي تصبح قوى عظمى في مجالها الحيوي، إن هي امتلكت عناصر الريادة واستلام زمام المبادرة، وكانت لقياداتها العليا رؤى إستراتيجية ثاقبة.
المملكة المغربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، هما الدولتان العربيتان الأكثر قابلية لأن تنطبق عليهما تلك الأوصاف، بفضل قيادتيهما، وبفضل ما امتلكتاه من عناصر قوة فريدة، مكنتهما من أن تكونا فعلا مركزي ثقل في جناحيْ العالم العربي، قوة في مشرقه وقوة في مغربه. وبالتالي فإن افتتاح قنصلية عامة لدولة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العيون المغربية، إضافة إلى كل دلالته ذات الصلة بمكاسب المغرب الدبلوماسية في طريق الدفاع عن وحدته الترابية، فإنها تعكس أيضا تلاقي القوتين العظميين، وذلك على نحو له ما بعده من الانطلاق العربي الخلاق والمبدع نحو فضاءات إفريقيا الواعدة، بما سيكون له بالغ الأثر على الشعوب الإفريقية والعربية.
فلم تكد تمضي سوى أيام على حدث افتتاح القنصلية التاريخي ذاك، حتى تحدث الملك محمد السادس في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء عن التوجه نحو الاقتصاد البحري باعتباره أفقا اقتصاديا عالميا، وذلك في إشارة إلى الموانئ العملاقة التي باتت تتوفر عليها المملكة من طنجة إلى الداخلة مرورا بأكادير، والتي توفر فرصة الربط الاقتصادي العالمي والقاري، ولتقوم القوات المسلحة المغربية بعد ذلك أيضا بتأمين معبر الكركرات الحدودي بشكل نهائي من كل التحرشات التي كانت تمسه في السابق، حيث سيكون المعبر رديفا للاقتصاد البحري وسيقوم كما كان دائما بدوره في تأمين التدفق السلس للتجارة الدولية بين شمال العالم وجنوبه.
فالمغرب إذن يكثف على الدوام حضوره الريادي في إفريقيا، باعتبارها الرئة الإستراتيجية للبلد، وذلك بات واضحا سواء من حيث الإقبال الكثيف على تقوية البنيات التحية، ومشاريع الطرق السيارة والسكك والحديدية، وشبكات الموانئ والمطارات، أو من حيث حجم الاستثمار المغربي في إفريقيا الذي يقدر بملايين الدولارات، مستفيدا من قطاع مصرفي نشيط وذي كفاءة عالية، ومن اقتصاد صناعي متنوع وذي إنتاجية عالية المستوى، وهذا ما يفسر إقبال المجموعات الاقتصادية الكبرى في العالم على توطين نفسها في الدار البيضاء، التي أصبحت أهم قطب اقتصادي في إفريقيا، بقدر حاجة الاقتصاد العالمي إلى المغرب للانطلاق نحو إفريقيا، تزامنا مع تشجيع البلاد للاستثمار الأجنبي وتنويع فرص الاستفادة منه.
وغير بعيد عن عناصر القدرة هذه، تقف دولة الإمارات العربية المتحدة كأكبر قطب اقتصادي واستثماري عربي وخليجي وآسيوي، حيث بات للبلاد ومنذ سنوات قطاع اقتصادي منتج، وكونت لنفسها بيئة استثمارية جعلتها في مأمن من تقلبات سوق النفط، وانفصلت تماما عن اقتصاد الريع الذي يفرضه، لكنها حافظت على النهج الذي اختطه مؤسسها الراحل الشيخ زايد بن سلطان، مُمْعِنَةً في تقديم الدعم لاقتصاد البلدان والشعوب العربية والإفريقية، حتى وإن اقتضى ذلك الاصطدام بالمشاريع الجيوسياسية الرامية إلى استغلال الشعوب ونشر الفوضى وأشكال الاقتصاد الضار كما تفعل كل من إيران وتركيا، مستعينة في ذلك ببنية الاعتدال الديني التي تتوفر عليها، ودعم العمق الثقافي الشعبي للشعوب العربية والإسلامية، واستيعاب مقتضيات التحديث والحرية وثقافة السلام العالمي.
إذن يلتقي المغرب والإمارات في الصحراء المغربية، بكل ما يحملانه من هموم السيادة تُجاه خصوم وحدتهما الترابية، وتُجاه مشاريع الهيمنة على الميراث الثقافي العربي الإسلامي الجمعي، وبما يُمثلانه من طموح الريادة العربية إفريقيا وعربيا، باعتبار سعيهما المشروع لأن يكونا الدولتين السباقتين عربيا إلى أن تصيرا قوتين عربيتين عظميين، تخدمان بشكل أساسي قضايا العدالة الاجتماعية وتقويان جبهتيهما الداخليتين، بانتهاج السلم الاجتماعي ونشر قيم الديمقراطية، وتجعلان للشراكة الإستراتيجية العربية الإفريقية معنى يفوق معنى مجرد ملء الفراغ أو تصريف فائض قوة، ويصل حد بناء نموذج حضاري لن يتوقف تأثيره على امتداد الزمن القادم.
لن يكون إذن مكانٌ لعربدة إيران وأذرعها في إفريقيا وغربها مستقبلا، فكما مُنيت تطلعاتها بالفشل على صعيد الشرق الأوسط، وانكشف عوارها في دعم كل ما يهز أمن واستقرار الدول العربية، بما في ذلك دعمُ مشاريع الانفصال، ها هو نمط الاقتصاد السيء الضار الذي نشرته في إفريقيا من تجارة للبشر والمخدرات وتبييض للأموال سيصبح في مواجهة الاقتصاد النافع والمنتج والحقيقي الذي سيصبح هو الوجه الأبرز في إفريقيا بفضل التظافر المغربي الإماراتي، وتاليا العربي في إفريقيا، لاسيما وأن بشائر افتتاح المزيد من القنصليات العربية في الأقاليم الجنوبية المغربية قد بدأت تلوح في الأفق.
إن هذا الواقع لن يكون في مأمن منه أيضا الجموح التركي، الذي وإن كان ضرره الاقتصادي أقل من نظيره الإيراني، فإنه بدوره لن يكون بوسعه الاستمرار في استعمال عباءة الطموح الاستثماري الاستحواذي للترويج لمشروع سياسي ديني أبعد ما يكون عن قيم التدين الثقافي، وأقرب إلى توفير بيئة حاضنة لنشر التطرف والإرهاب على غرار ما حدث في سوريا وليبيا. فيما سيصبح التنافس مع ريادة إستراتيجية من ذلك القبيل غيرَ ذي معنى وخارجَ امتلاك عناصر قوة حقيقية وفعالة ونافعةٍ للشعوب إذا لم يكن تنافسا مبنيا على رؤية إستراتيجية متكاملة كتلك التي أبان عنها المغرب والإمارات.