وعلى الرغم من المشترك الجغرافي والتاريخي بين فرنسا ودول أوروبية أخرى، لا سيما ألمانيا وبريطانيا، فإن نموذجها بقي متميزا مختلفا عن نماذج أنغلوسكسونية مجتمعية شكلت حاضر العيش في تلك البلاد، وصولا على ما بني في الولايات المتحدة الأميركية.

وقد تنافس مفهومان فلسفيان في عز الجدل التاريخي بين ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر، بين مدرستين ما زالتا تمثلان قاعدة لمفهوم "الأمة" في العالم.

ويظهر سجال الحالتين في ما كتبه الفرنسيان أرنست رينان وفوستيل دي كولانج حول اتفاقهما على أن الأمة لا تتأسس حول لغة أو حول عرق، بل وفق روح مشتركة يجتمع داخلها البشر وتتشكل الأمة على أساسها.

واستفاض رينان خصوصا في الحديث عن قيم يجتمع حولها الناس، فيؤسسون أمتهم التي يمتد حيزها ما امتدت هذه القيم.

بالمقابل، يعتبر الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته (فيخته) أحد المساهمين الكبار في صناعة مفهوم الأمة. لا سيما وأن أطروحته تأتي مختلفة عن المقاربة الفرنسية للأمر.

وقد اشتهر الرجل بسلسلة ما عرف باسم "خطابات إلى الأمة الألمانية"، حدد فيها بعمق رؤيته لتلك الأمة التي تتأسس على عوامل اللغة والدم، على نسق مختلف عن المدرسة الفرنسية التي تعتبر "الأرض" أي المكان والقيم هي أساس قيام الأمة.

على هذا وجد الفرنسيون في توسعهم الجغرافي، من أجل نشر قيم الحداثة التي أنتجتها ثورتهم، مبررا مشروعا لقيام أمتهم، فيما تمسك الألمان بصلة الدم، وربما العرق الجرماني، وصولا إلى الآري في عهد النازية الهتلرية، أساسا لقيام أمتهم.

حتى أن هتلر كان يرى أن الأمة الألمانية موجودة أينما وجد دم ألماني (الأمر الذي برر احتلال بولندا ودول أخرى).

ويكاد مفهوم الأمة في العالم أجمع ينقسم حول مدرستي الأرض والدم. وقد تبنت نصوص القومية العربية المفاهيم الألمانية من حيث التمسك بعوامل اللغة والدين والدم، كقواعد لقيام أمة العرب الكبرى.

بالمقابل، بنت فرنسا عمارتها الاجتماعية الثقافية على الاجتماع حول القيم التي صاغتها الثورة الفرنسية، بحيث تصهر تلك القيم الأفراد داخل عجينة وطنية واحدة مزيلة الحدود بين الجماعات والمذاهب والأعراق.

على هذا أقامت فرنسا الحديثة جمهوريتها بإبعاد الدين، والكنيسة طبعا، عن السياسة والسلطة وعن إدارة شؤون الناس في الاقتصاد والسيرورة والمصير.

وكان للتجربة الفرنسية فيما فرضته بالقوة والدم (منذ إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت)، وفيما فرضته بالنص (منذ قوانين العلمانية عام 1905)، صدى عالمي فرض تحديثا للمنظومات التي حكمت ضفتي الأطلسي.

تجمع فرنسا مواطنيها أفرادا حول قيم واحدة، فيما تكاد دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا أن تجمع الناس بصفتهم مللا وجماعات.

وعلى هذا يمكن فهم أن ملكة بريطانيا هي رأس الكنيسة في بلادها، فيما للكنائس نفوذها في ألمانيا (المستشارة أنغيلا ميركل كانت رئيسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي)، وفي الولايات المتحدة (لاحظ نفوذ الكنائس في الانتخابات الرئاسية الحالية). بالمقابل تحظر قوانين العلمانية الفرنسية انخراط الدين في المنابر الدنيوية للشأن العام.

ورغم تباين سيرة قيام الأمم وعصب ظهورها، فإن الصدامات الحديثة التي حصلت مع الإسلام قد لا تمت بصلة إلى الأصل الفلسفي لقيام الأمة وفق رينان الفرنسي أو فخته الألماني، ذلك أن للدين والتابعين له حيز واسع داخل هذه الأمم وفق القوانين التي تسيّر شؤونها.

وقد ظهر أن لتصادم القيم (أو الحضارات وفق مؤلف صموئيل هنتغتون الشهير لعام 1992) علاقة مباشرة بتصادم المصالح السياسية، خصوصا منذ ظهور الجمهورية الإسلامية في إيران.

وللتذكير أن فتوى الخميني ضد سلمان رشدي عام 1989 طالت كاتبا في بريطانيا التي لا تسري داخلها قوانين العلمنة وفق نموذج فرنسا. ثم أن رسوم الكاريكاتور المسيئة ظهرت في دولة مثل الدنمارك اللوثرية قبل سنوات من ظهورها على صفحات "شارلي إيبدو" في باريس.

والحال أن السجال جار بين المفهوم المطلق لحرية الرأي (المجمع عليها لدى كافة الديمقراطيات الكبرى) والمفهوم المطلق لمنع ازدراء الأديان (المختلف بشأنها داخل تلك الديمقراطيات). 

والحال أيضا أن المناسبة في فرنسا، لا سيما بعد جريمة القتل الوحشية التي نفذها شاب من أصول شيشانية ضد مدرس في إحدى ضواحي باريس، تفتح نقاشا داخليا مثيرا للانتباه في فرنسا، حول مقدار المرونة التي تتسرب من العلمانية ما بين التمسك بحماية المجتمع مما يريد الدين فرضه من مقدسات وثوابت، والتمسك في الوقت عينه بما تفرضه العلمانية نفسها من ضمانات لحماية حرية المعتقد وممارسة طقوسه.

وفيما يتسرب من ضجيج الأزمة روائح سياسية تفسر هياج تركيا في عز توتر العلاقات بين تركيا فرنسا، وهدوء إيراني في عز تواطؤ علاقات طهران وباريس، فإن الجدل الفرنسي الداخلي يعطي دروسا في كيفية صيانة بلد ديمقراطي كبير لتراثه وتاريخه من أجل ترميم وعاء "الأمة".

المسلمون في فرنسا (7-8 ملايين) هم جزء من تلك الأمة، وباتوا يحظون بشبكة دفاع تنسجها تيارات وأحزاب وجمعيات ومنابر إعلامية فرنسية، فيما يطل قادة "الجالية" مستنكرين أن لا تقوم حكومة باريس بحمايتهم وحماية البلد من المتطرفين، ورفع الغطاء الملتبس عن حضورهم.

ويكشف الجدل الفرنسي المحتدم قدرة الديمقراطية على صيانة نفسها وحماية مواطنيها من شطط قد يمارس باسم العلمانية، من ضمن حسابات ظرفية تنتهي بانتهائها.