طوال العقدين الماضيين، وكلما كانت تمر تركيا بحقبة وتحولات سياسية رئيسية ما، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان يغير من طبيعة نهجه وسلوكه وخياراته السياسية تماماً.
فغريزة بقائه في سُدة الحُكم، أياً كان شرط وشكل ذلك البقاء، كانت تدفعه دوماً لتحسس شروط الحياة العامة الداخلية في تركيا، ومعها التوازنات السياسية الإقليمية والدولية، وتالياً تغيير هويته وخياراته وسلوكياته السياسية، لتكون قادرة على حفظ سلطته، بناء على هذه المناخات الجديدة
راهناً، ومع تنامي المؤشرات الدالة على أن القوى الدولية ستكبح جموح أردوغان التدخلي العنيف في أكثر من ملف إقليمي ودولي، في كل من ليبيا وأرمينيا وشرق المتوسط، وما قد يفرضه ذلك من موقف حرج على سلطة أردوغان وخطابه وشرعيته داخلياً، فإنه يُنتظر منه أي يتبنى تحولاً رئيسياً في خياراته وبنية منظومته الحاكمة، وهو سيكون التحول السياسي الجوهري الرابع الذي قد يتخذه أردوغان في تاريخه السياسي، منذ قرابة 20 عاماً، تلك التحولات التي عاشها ونفذها وأوحى بالإيمان بها رجل واحد فحسب، رغم تناقضها الواضح جداً فيما بينها!؛ لكنها السلطوية التي كانت تفرض شروطها دوماً.
في بداية مسيرته السياسية، كان أردوغان يعرض نفسه وحزبه كتيار سياسي تجديدي وسطي وحداثي في الحياة السياسية التركية. إذ كان يسعى للجمع بين نوع من المحافظة الاجتماعية مع الانفتاح التام على المنظومة الأوربية وشروط الاندماج بها، كذلك كان يسعى لأن تلتقي وسطيته القومية مع محاولة لحل المسألة الكردية في تركيا، وأن يجمع الإسلام السياسي مع الانفتاح على الأقليات الدينية والمذهبية داخل تركيا.
امتدت تلك المرحلة من عام 2002 وحتى عام 2010، لكنها بالتقادم فرضت على أردوغان مجموعة من الشروط، مثل دعوات الاتحاد الأوروبي له لفتح الحياة الداخلية لمزيد من الحريات السياسية، ومطالبة القوى الداخلية والكردية والعلوية بالذات، لمزيد من الحقوق والشراكة في الحياة العامة. وقتئذ كان أردوغان يستشعر خطراً داهماً على استمرار سُلطته المطلقة على البلاد، فتلك الشروط والحريات لا يمكن لها أن توائم ميوله للاستفراد بالحُكم؛ فغادر ذلك الموقع تماماً، وصار يتصرف في مرحلة تالية بشكل مختلف تماماً.
في مرحلته الثانية التي تلت ذلك، وامتدت طوال سنوات 2010-2018، انزاح أردوغان ليتحالف مع القوى القومية والعسكرية ضمن الدولة التركية، وأن يتحول بالتالي إلى زعيم شعبوي، يرفع من لواء صراعات الهويات القومية والمذهبية والمناطقية داخل البلاد.
فمن جهة دخل في تحالف صميمي مع الحركة القومية التركية المتطرفة، وأوقف أي تقدم في مفاوضات السلام مع الأكراد، وخلق وئاماً مع النخبة العسكرية، حفظ بموجبها امتيازاتهم وخطوطهم الحمراء، وابتعد تالياً عن قيم الحرية والديمقراطية الأوربية المنفتحة، التي كان ينادي بها في مرحلته الأول.
لكن مرحلة أردوغان الثانية انتجت فاعلين غير محسوبين من قِبله. فقد تمادت قوى اليمين القومية المحافظة حتى صارت خطراً داهماً على حُكمه. فمجموعة فتح الله غولن في أجهزة الدولة والجيش غدت جاهزة وقادرة على الانقلاب على أردوغان سياسياً وعسكرياً وقضائياً، وقد جربت كل ذلك تفصيلاً في السنوات الثلاث الأخيرة من تلك المرحلة (2015-2018). كذلك فإن تحالف أردوغان مع اليمين القومي أدخل البلاد في أسوء موجة من الركود الاقتصادي، بسبب مغادرة الرساميل العالمية بعد تخلي أردوغان عن التزاماته السياسية التي كانت في مرحلته.
ولتجاوز صعوبات المرحلة الثانية، اختار أردوغان اعتباراً من عام 2018 إخراج أزماته الداخلية نحو الخارج، وصار تالياً مجرد غول عسكري إقليمي، ينشر العنف وزعزعة الاستقرار وإرسال التنظيمات العصاباتية إلى مختلف دول المنطقة، بغية استخدام تلك الساحات الخارجية لخدمة مشروعه الداخلي، المتمثل في البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة.
في مرحلته الثالثة، كان أردوغان يُمني النفس بأن تدر عليه تدخلاته الخارجية الكثير من العوائد الاقتصادية، من النفط الليبي واليوناني والأذربيجاني، وأن تكون تلك الأموال المتدفقة عبر الشركات المرتبطة بحزبه وعائلته أداة لتجاوز ما تمر به تركيا من أزمات اقتصادية خانقة. كذلك فإنه كان يعتبر تلك التدخلات آلية لتكريسه كزعيم قومي للبلاد، تمنحه القواعد الاجتماعية القومية والمحافظة أصواتها دون تفكير بما يطال شروط حياتها الداخلية من تدهور بسبب سياسات أردوغان وفساد نُخبة الحُكم من حوله.
حسب مؤشرات الكبح الراهنة، التي تنفذها القوى الدولية، الولايات المتحدة في الملف الليبي وروسيا في الملف الأرميني والمنظومة الأوربية في ملف شرق المتوسط، والتي ستطال بمجموعها جموح أردوغان التدخلي في الملفات الخارجية، يبدو أن مرحلة أردوغان السياسية الثالثة قد أتت على نهايتها، وأنه لم يعد قادراً على البقاء في هذا المربع، كزعيم وغول عسكري إقليمي، وأنه سيضطر لأن يغير تماماً من أدوات تعامله الراهنة مع القضايا التي تواجهه.
لا يُعرف بالضبط ما الذي يمكن له أن يفعله، خصوصاً وأن العودة إلى التحالف والانفتاح على المنظومة الأوربية والدولية تبدو شبه مستحيلة، وكذلك الشراكة مع الأكراد وغيرهم من القوى السياسية الداخلية التركية، فوق ذلك ثمة وضع اقتصادي بالغ التدهور.
أي تواجهه جميع المؤشرات التي تهدد بقاءه في سُدة الحُكم، وتالياً قد لا يبدو أمامه من حل سواء تجريب الانقلاب التام على المنظومة السياسية التركية، وبالتالي التحول إلى نظام ديكتاتوري مطلق في حال نجاحه، أو مواجهة مصير دموي فيما لو فشل.