قبل عقود قليلة، وربما حتى وقت قريب كان يطلق على مثلث العراق وسوريا ولبنان "الهلال الخصيب"، بسبب شكل الدول الثلاث على الخريطة وبسبب خصوبة أراضي المنطقة خاصة في شمال العراق وسوريا حيث نهري دجلة والفرات وإلى الغرب نهر عفرين. لكن العقدين الأخيرين شهدا تطورات كثيرة أدت إلى "انبعاج" شكل الهلال الذي لم يعد خصيبا مع شح مياه الفرات وسيطرة الاحتلال على نهر عفرين.
في البدء، ونحو نهاية القرن الماضي، قامت تركيا أردوغان ببناء السدود على الفرات وحجز مياه النهر عن سوريا وأكثر عن العراق دولة المصب.
ولم يستجب أردوغان لأي حلول وسط مع سوريا والعراق لتفادي "تعطيش" أراضي البلدين الزراعية.
كان الوضع يشبه ما يحدث الآن بين إثيوبيا والسودان ومصر بالنسبة لنهر النيل.
ثم برز الإرهاب في شمال وغرب العراق وشمال سوريا وتولت داعش حرق ما بقي من الخصب في تلك المناطق، وانتهى الأمر باحتلال تركي لشمال غرب سوريا والسيطرة على نهر عفرين ليكتمل الجدب بديلا للخصوبة.
تلك الندبة من حريق إرهاب داعش لم تلتئم، بل توغلت تركيا أردوغان لتحتل مناطق من شمال سوريا وتواصل قصف شمال العراق (كردستان العراق) حتى تغيرت الجغرافيا ولم يعد الشكل هلالا كما كان.
حتى المخاوف التقليدية من تحول الهلال الخصيب – سابقا – إلى "هلال شيعي" كما حذر ذات مرة العاهل الأردني غلب عليها فرض الأمر الواقع التركي متقاطعا مع الإرهاب، وزاد الانبعاج بضغط فارسي من الشرق وأردوغاني من الشمال.
بل إن ما أصبح يميز ما كان هلالا خصيبا، أي العنف المستمر والتمزق والإرهاب تمدد حتى يطاد الهلال السابق يصبح دائرة تبدأ من أفغانستان وتنتهي باليمن، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وليبيا ونيجيريا والصومال. وعلى طرفي تمدد الهلال إلى شبه دائرة تجد إيران وتركيا.
كان للدبلوماسي الأمريكي من أصل بولندي زبيغنيو بريجنسكي، الذي تولى منصب مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، نظرية حول سبل التعامل مع تسمى استراتيجيا "البطن الرخوة" للاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
تتلخص نظرية بريجنسكي في إشعال صراعات في "الدول المتاخمة" ليست بالحدة التي تقود إلى حرب لكنها أيضا ليست بالخفوت الذي يطفئ شعلتها لوقت طويل.
لكن النموذج الأمثل على نظرية "الصراع الممتد منخفض القوة" Protracted Low-Intensity Conflict (أو PLIC كما يفعل الأميركيون مع كل شيء: يختصرونه لحروف قليلة) تلك كان في الصومال بعد انهيار الدولة هناك مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وبعد عقدين، كاد ذلك أن يحدث في بعض الدول العربية لكن ظلت سوريا وليبيا تحديدا تعانيان من تلك الحالة. أما العراق فيعيش تلك الحالة منذ عقود بالفعل ولا يسبقه فيها سوى أفغانستان.
هذا الطوق من النيران المشتعلة لكنها لا تدمر تماما ولا تخبو تماما لم يعد يستهدف "حزاما عازلا" كما في أيام الحرب الباردة – وإن كان نقل تركيا إرهابيين من سوريا للمشاركة في نيران جديدة بين أذربيجان وأرمينيا لا يبعد كثيرا عن حدود روسيا. لكن ربما الأهم من روسيا الآن هو الصين، ولا يمكن اعتبار سوريا وليبيا مثلا "بطن رخوة" للصين – رغم أن أفغانستان قد تبدو كذلك.
إنما يحيط هذا الحزام يقلق منطقة الشرق الأوسط، أي دول الخليج ومعها مصر والأردن. وإذا كان أي خطر يمثله الهلال الخصيب سابقا هو على شبه الجزيرة العربية، باعتباره حدها الشمالي ومنه يأتي كثير من العمالة العربية الوافدة في دول الخليج، فإن اتساع الطوق حاليا بعد انبعاج الهلال يمثل تهديدا أكبر وأوسع. ولم يعد الأمر مقتصرا على صراعات داخل تلك البلدان، وإنما لأن وقوده الأساسي هو الجماعات الإرهابية التي يعود جذرها لتنظيم رئيسي هو جماعة الإخوان.
من هنا تأتي خطورة بؤرتين في المنطقة لتلك الجماعة تتلقفان الضغط الإيراني والأردوغاني من كل الاتجاهات: جماعة الإخوان في الأردن ومصر. ربما يكون نفوذ الجماعة في مصر تراجع بعد الإطاحة بهم من السلطة، لكنهم لم ينتهوا تماما. كذلك الحال في الأردن، ليست الجماعة ببعيدة عن ساحة العمل العام رغم الحرص على ألا تبدو بارزة تماما.
إذا استمر انبعاج ما كان هلالا خصيبا ولم يتم التصدي لزيادة وتيرة الإرهاب في إفريقيا انطلاقا من ليبيا فإن "صاعقا" إرهابيا قد يجعل تلك الصراعات منخفضة الحدة نارا مشتعلة يطال شررها كل المحيط. هذا الصاعق هو التقاء الجهد الأردوغاني/الإيراني بخلايا الإخوان النائمة في داخل الدائرة – وتحديدا في مصر والأردن.