الذين قُدِّرَ لهم متابعةُ كلمة الرجل ذي الثوب الأبيض، والتي وَجَّهَها إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في مناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها، أدركوا أنّه يسعى، ولو في الساعة الحادية عشر إلى تغيير عالمنا المُعولَم الغارق حتّى أذنَيْه في الصراعات، والتي تتخذ ثوب الحمائيّة تارة، وتتخَفَّى وراء النزعات القوميّة تارةً أخرى، والرأي عنده أبدًا ودومًا أنّه "لا لفكر السيادة  والغلوّ، البطش والعُلُوّ، الذي يؤدّي في نهاية المشهد إلى إيذاء النفس بشكل جماعيّ".

هل حاول الفقير الساكن وراء جدران الفاتيكان أن يأخذ من تفشِّي وباء كوفيد-19، والذي يُعاوِد اليوم الانتشار بضراوة، مَدخَلاً إلى تقييم عالم العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، والانتقال به إلى عصر جديد أكثر إنسانويّة؟

ذلك كذلك قولاً وفعلاً، إذ يدعو الجميع لاعتبار زمن المحنة  هذا زمنًا للاختيار، بين ما هو مهمّ، وما هو عابر، وقت الفصل بين ما هو ضروريّ وما ليس ضروريًّا.

غَيَّرتْ أزمة كوفيد -19 حياة البشر، هذا قولاً واحدًا، لا مِراءَ فيه، فقد جعلتْنا نتشكَّك في أنظمتنا الاقتصاديّة والصحّيّة والاجتماعيّة، وعليه فإنّ الوقت الحاضر ينبغي أن تملأه التساؤلات القيميّة عن الارتداد والتحوُّل الإيجابيَّيْن، ومن ثَمّ إعادة التفكير في أسلوب حياتنا وأنظمتنا الاقتصاديّة  والاجتماعيّة.

آفة حارة الإنسانيّة في القرن الحادي والعشرين هي اللامبالاة، لا سيَّما تجاه الآخر، ما يُوَسِّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، نتيجة التوزيع غير العادل للموارد، لكن في الوقت نفسه يمكن لهذا الوقت أن يكون فرصةً لِـ"تراجع دفاعيّ"، لا تنكر الخصائص الفرديّة والنخبويّة، أي الحقّ الشرعيّ في الحياة والتملّك من غير أن يعني ذلك الافتئات على حقّ الآخر في الحياة.

في أوائل سنوات فرنسيس، اتَّهمتْه بعض الأصوات المغرِقة في الرأسماليّة والنيوليبراليّة بأنّه بابا شيوعيّ، من جَرّاء انحيازه إلى المُهَمَّشين والمطحونين، بل والمعذّبين في الأرض، وقد كان من المُقرَّر أن يتنادى إلى حضرته شبابٌ من أفضل الاقتصاديّين حول العالم في شهر مارس الماضي، ومنهم بعض الحاصلين على جائزة نوبل للسلام في الاقتصاد من كبار السنّ، في محاولة إلى بلورة اقتصاد جديد، وربّما ينعقد اللقاء الأيّام القادمة، لتصبح هذه المرّة الأولى التي نرى فيها حبرًا أعظم رومانيّ كاثوليكيّ، يسعى إلى تقديم رؤية اقتصاديّة عالميّة، وليس إرشادًا رسوليًّا فحسب عن العدالة الاجتماعيّة، ولهذا كان من الطبيعيّ أن تفتح أبواق الرأسماليّة الأمريكيّة وأدواتها الإعلاميّة أفواهها عليه بادّعاءات غير صحيحة لا من حيث الشكل أو المضمون.

فرنسيس من على  منبر الجمعيّة العموميّة يسلِّط الضوءَ على أهمّيّة تعزيز الصّحّة العالميّة، وحقّ كلّ فرد في الرعاية الطبّيّة الأساسيّة، ويُجدِّد دعوته للمسؤولين السياسيّين والقطاع الخاصّ  لكي يتّخذوا التدابير المناسبة من أجل ضمان الحصول على  اللقاحات ضدَّ فيروس كورونا المستجد، والتقنيّات الأساسيّة اللازمة  لرعاية المرضى.

معيار المفاضَلة عن أسقف روما ليس المال أو الجاه، ولا السلطة أو المركز العالي اجتماعيًّا كان أو دعائيًّا، إنّ لديه معيارًا آخر يميل إلى الفقير، فإذا وجب التمييز بين شخص ما وآخر، فالأولويّة ينبغي أن تكون لصالح الأشدّ فقرًا والأكثر ضعفَا، أي ذلك الشخص الذي يتمّ عادةً تمييزُه بسبب عدم امتلاكه القُوّةَ أو الموارد الاقتصاديّة.

لعلّ ما يضفي مصداقيّة على "خورخي بيرغوليو"، (اسم فرنسيس قبل البابوية)، هو أنّ أفعاله تَتَّسق مع أقواله، فمنذ لحظات اختياره كَرَاعٍ للسيادة البطرسيّة، نَصَحَ الراغبين من مواطنيه الأرجنتينيّين الراغبين في السفر إلى روما لحضور حفل تنصيبه، بأن يتابعوا المشهد عبر شاشات التلفاز، وعوضًا عن ذلك أن يقدِّموا تكلفة السفر والإقامة للفقراء من حولهم. وقد كان شعاره ولا يزال :" شعبي فقير، وأنا واحدٌ منهم"، وما اختياره اسمَ فرنسيس، إلا تَيَمُّنًا بسَمِيِّه، مُتصوِّف القرن الثاني عشر الأشهر الإيطالي فرنسيس الأسيزيّ.

على أنّ الرجل الذي يعيش الفقر الاختياريّ يُدهِشُنا بغنى أفكاره، وهو الراهب اليسوعيّ، أي المنتمي إلى الجماعة المُثَقَّفة والمُفكِّرة داخل إطار الكنيسة الكاثوليكيّة، ومن بين تلك المضامين الجوهريّة التي ينشد الاهتمام بها فكرةُ التضامن،  تلك الكلمة التي لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال كلمةً فارغة أو وعدًا مَنسِيًّا.

التضامن الأمميّ الذي من شأنه نشأتْ عصبة الأمم، وتاليًا هيئة الأمم المُتَّحدة، يُوضِّح لنا أهمّيّة تجنُّب إغراء تجاوز حدودنا  الطبيعيّة، ذلك أن حرّيّة الإنسان قادرة على تقييد التقنية وتوجيهها ووضعها في خدمة نوع آخر من التقدم السليم والإنسانيّ والاجتماعيّ والإدماجيّ.

خطاب فرنسيس إلى الجمعيّة العموميّة لمن لديهم رؤية ثاقبة يفتح آفاقًا واسعة للحديث عن علاقة الذكاء الاصطناعيّ بالبشريّة، وهي قضيّة سوف تنفجر بشكل مدوٍّ حيث تنتهي جائحة كورونا، إذْ ستجد الخليقةُ ذاتَها أمام نماذج مغايرة من أنساق الحياة، حتمًا سوف تعلي من نصيب أصحاب رؤوس الأموال الهائلة الذين عرفوا كي يستفيدوا من حصار البشر خلف المنازل، ودفعهم في طريق التعاطي مع كلّ ما هو غير بشريّ من مواصلات أو اتّصالات وفي صورة روبوتات،  ولهذا كان تحذير فرنسيس من كلّ ما يضرّ بكرامة النوع البشريّ، المخلوق في أحسن تكوين.

فرنسيس، وفي نهاية خطابه المُطوَّل، يُؤكِّد على المُنعطَف الذي تعيشه الإنسانيّة هذه الأوقات لهو منعطف تاريخيّ، فإمّا أن نخرج  بشكل أفضل أو من أسف يحدث العكس.

الخلاصة التي يمكن للمرء أن يستخرجها من كلمات البابا  فرنسيس أنّ البشريّة أمام مرحلة جديدة من بناء الجسور، أو  الجدران، والأمم المتّحدة كانت في صَفّ الاختيار الأوّل، وكوفيد -19 فرصةٌ لكي نحوِّل التحدِّيَ إلى لحظة مختطَفة من عُمْر الزمن لكي نبني المستقبل معًا مرَّةً أخرى، المستقبل الذي نريده.