أعدت وزارة العدل الأميركية مشروع قانون لعرضه على الكونغرس ينهي الحماية القانونية لشركات الإنترنت الكبرى ويلزمها بالمسؤولية عن المحتوى الذي يبث عبرها.
ويستهدف القانون شركات عملاقة مثل فيسبوك وتويتر وغوغل وغيرها، والتي تتمتع حتى الآن بميزة اتاحة الحرية المطلقة لمستخدمي وسائل التواصل تلك عبر الإنترنت في بث أي محتوى، مع مراقبة طفيفة حسب قواعد أخلاقية فضفاضة تقررها تلك الشركات. أما مشروع القانون الجديد، في حال اقراره من الكونغرس، سيعني اضطرار تلك الشركات لتحرير المحتوى لتفادي التزامات قانونية، ويعني ذلك كلفة غير عادية تتحملها كي لا تقع تحت طائلة قوانين النشر والتشهير والسب والقذف.
فحتى الآن، تعمل تلك المواقع على الإنترنت على أنها "وسائل محادثة" وليست منصات نشر، لكن زيادة نفوذها في التأثير في الرأي العام دفع السلطات إلى إعادة التفكير في "تنظيم" عملها بقواعد وقوانين ولوائح مستحدثة. لكن، ألا تكفي قوانين النشر المترسخة في الديموقراطيات الغربية لذلك؟ المشكلة أن شركات الإنترنت لها وضع خاص، فهي ليست شركات نشر ولا ينطبق على مواقع التواصل ما ينطبق على مواقع المنافذ الإعلامية التقليدية كمنصات الصحف والشبكات التلفزيونية التي تخضع لقوانين النشر التقليدية.
صحيح أن شركات االإنترنت الكبرى تدفع ضرائب على أرباحها من الاعلانات وغيرها، بما لا يختلف عن ضرائب الشركات عامة، لكن الاجراء الأميركي إذا نفذ سيعني خسائر كبيرة لتلك الشركات تنال من عائداتها المقدرة بالمليارات. وهذا ما تستهدفه إدارة الرئيس دونالد ترامب أساسا.
في بقية دول الديموقراطيات الغربية، مثل بريطانيا مثلا، تكفي قوانين النشر (التي يتم تحديثها باستمرار) لتنظيم بث الأخبار والآراء على الإنترنت، ثم هناك قوانين حماية المجتمع التقليدية ضد التشهير والإرهاب والعنف والعنصرية وغيرها. وبالتالي لا تجد قوانين خاصة بالإنترنت أو تنظيم لمواقع التواصل بالشكل الذي يستحدثه قانون وزارة العدل الأميركية المقترح.
أما في بلادنا، فقد كانت هناك ريادة في سن قوانين تتعلق بالإنترنت وبمواقع التواصل مبكرا، وربما يعود ذلك لأن قوانين النشر في بلادنا رغم تحديثها أيضا من حين لآخر ليست مثل نظيرتها في الغرب. فالأمر لا يعود فقط لمدى حرية الرأي والتعبير إنما لمدى تأثير ونفوذ الصحافة والإعلام أو الانترنت ومواقع التواصل في المجتمعات المختلفة.
كنا في السابق في بلادنا حين نشير إلى أن الأمر "ترويجيا" وليس دقيقا نقول "كلام جرايد". فالصحافة في زمن ما قبل انتشار الإنترنت كانت وسيلة الخبر والمعلومة الوحيدة. ونتيجة سيطرة السلطات على وسائل الإعلام بطريقة مباشرة (ملكية) أو غير مباشرة (حسابات مصالح) لم تكن قوانين النشر وقواعد ولوائح تنظيم الصحافة والإعلام بذات الأهمية التي أوليت لقوانين تنظيم الإنترنت ومواقع التواصل مؤخرا. هذا على عكس الوضع في الغرب، حيث "كلام الجرايد" أهم بكثير لدى الناس من "كلام الإنترنت" فما زالت الصحافة تتمتع بمصداقية لا تصل إليها مواقع التواصل.
لكن ها هي الولايات المتحدة، قائدة العالم الحر، تأخذ المسار ذاته التي سبقت فيه بعض دول منطقتنا بسن قوانين ولوائح وقواعد لتنظيم الإنترنت ومواقع التواصل. ليس هذا فحسب، بل إن ما كنا نطلقه سابقا على الصحافة في بلادنا أصبح الآن سمة في الديموقراطيات الغربية. فمن يعمل عقله وينظر للأمور بنظرة نقدية تمحيصية لا يرى في ما تبثه مواقع التواصل من معلومات أو آراء سوى "كلام إنترنت" – أي لا يتمتع بمصداقية، وفي أغلب الأحيان هو تلفيق وتزوير وتضليل او على الأقل "دس معلوماتي" يعتمد أنصاف الحقائق لأغراض سياسية أو ترويجية.
في المقابل، أدت أزمة وباء كورونا الحالية إلى استعادة الصحافة التقليدية في بلادنا أهميتها، بالنسبة للسلطات وللجماهير على السواء، كوسيلة للمعرفة الصحيحة وسط الكم الهائل من الدجل والتضليل ونظريات المؤامرة عبر الإنترنت، وتحديدا من خلال مواقع التواصل. مع ذلك بالطبع يظل هناك من يرى في بعض الصحافة "كلام جرايد" حتى مع الشك الكبير في ما يبث عبر مواقع التواصل باعتباره "كلام إنترنت".
ربما الفيصل الأساسي في اختلاف القوانين واللوائح والقواعد المنظمة للصحافة والإعلام، والآن مواقع التواصل وشركات الإنترنت عامة، هو التعريف القانوني لما يعتبر "المصلحة العامة". فحتى الآن، ما تعتبره بعض المجتمعات "مصلحة عامة" تعتبره غيرها قيودا على حرية الراي والتعبير – وذلك الخلاف في الأساس هو لأغراض سياسية أكثر منه ما يتعلق بمبادئ إنسانية أساسية من حريات حقوق. حتى ميثاق حقوق الإنسان العالمي، الذي وقعته أغلب دول العالم وتلتزم به نظريا على الأقل، يخضع لتفسيرات مختلفة في القوانين المحلية ومنها ما ينظم الصحافة والإنترنت. ويخشى المرء أن تتحول تلك المواثيق الدول أيضا إلى "كلام جرايد" أو "كلام إنترنت"، لأن ذلك سيعني الفوضى بالفعل.