تسود مجتمعاتنا الكثير من الأوهام التي يروج لها البعض، إما باسم الدين أو باسم العروبة أو مبادئ الحق والباطل وما إلى ذلك من وسائل الترويج، لكن ما يغيب عن كثيرين منا هو مبدأ السلام والتعايش وحب الخير للآخر، مهما كان مختلفا.
السلام هو أساس الحياة وأساس التطور والسعادة، وتحقيق السلام يحتاج إلى استعداد نفسي وفكري، وتصالح مع الذات وقبول بالآخر واستعداد للتسامح والتضحية، فالأشياء الثمينة في الحياة تحتاج إلى فهم وجهد وتضحية.
الصراع العربي الإسرائيلي بدأ في عشرينيات القرن الماضي، وبدلا من التفاهم والتوصل إلى حلول سلمية، لجأت القيادات العربية والإسرائيلية المتنفذة إلى المواجهة والعنف والصدام، واستبعدت الوسائل السلمية كليا، بل ورفضت حتى الوساطات الدولية والقرارات الأممية التي حاولت أن تحل المشكلة.
لم تفلح المواجهة بين الطرفين ولم توصلهما إلى نتيجة، كما هو متوقع، فالعنف هو في النهاية ضرر كلي، لم يستفد منه أحد على مر الأزمان، فلا يمكن إلغاء قضية يؤمن بها شعب من الشعوب عبر العنف، وتأريخ البشرية خير شاهد على ذلك. وفي عام 1948 قامت دولة إسرائيل، واعترفت بها العديد من دول العالم، وفي مقدمتها تركيا وإيران، اللتان تدفعان جماعات مرتبطة بهما إلى المواجهة مع إسرائيل لأسباب لا علاقة لها بمصلحة الشعب الفلسطيني.
ومنذ ذلك الحين والعرب في حالة حرب مع إسرائيل، وفي كل حرب يسقط قتلى وجرحى ويضيع مزيد من الأرض والحقوق ويتحول سكان آمنون إلى مشردين ويتكبد العرب خسائر موجعة ويتجرعون هزيمة جديدة. ورغم ذلك، بقي خطابهم متشددا، وأساليبهم في التعامل مع القضية الفلسطينية ثابتة، رغم أنها أتت بالويلات على الشعوب العربية، أو على الأقل فشلت في تحقيق أي مكسب. كان يجب أن تكون هناك مراجعة حقيقية وجذرية للتعامل مع المسالة، وكان من الضروري أن تتغير الأساليب الفاشلة، ويتغير الخطاب المتشدد والتفكير الماضوي منذ الهزيمة الأولى، كي يتمكن العرب من تحقيق مكاسب، أي مكاسب، سياسية أو اقتصادية أو دبلوماسية أو علمية. وفي تلك الأثناء، تمكنت إسرائيل منذ تأسيسها من كسر الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي فرضه العرب عليها، بفضل علاقاتها الدولية الجيدة وتصالح سكانها مع بعضهم، وتفاهمهم حول القضايا المشتركة بينهم رغم خلافاتهم السياسية العميقة.
الدول العربية التي أخفقت في التعامل مع قضية اعتبرتها مركزية، تحتاج لأن تراجع مسيرتها كي لا يتواصل الفشل والتراجع وتتوالى الهزائم التي اتسم بها القرن المنصرم. إحراز التقدم السياسي والاقتصادي، واسترجاع الحقوق وإعادة الاعتبار والثقة بالنفس، يمكن أن تتحقق بطرق عديدة، وليس عبر الحرب وحدها، فالحرب هي دوما الخيار الأخير، والذي يلجأ إليه فقط مع القوى الإرهابية التي ترفض الحوار وتصر على ممارسة الإرهاب. الحرب تقع فقط عندما تفشل السياسة والدبلوماسية والاقتصاد في حل المشاكل، والسياسة تنجح عندما يبرز قادة لديهم القدرة والخبرة وبعد النظر والفهم العميق لكيفية إدارة العلاقات الدولية، ويمتلكون رؤية دقيقة للمستقبل ويسعون بجد ومثابرة لخدمة شعوبهم.
في أواخر عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، توصل المصريون إلى قناعة بأن الحرب لن تحقق السلام أو الاستقرار، ولن تعيد الحقوق، وأن المنطقة لكها لن تهدأ دون تحقيق السلام، فبدأوا مفاوضات سرية مع الإسرائيليين، تحولت إلى علنية في عهد سلفه الرئيس أنور السادات، الذي أطلق مبادرة سلام شاملة مع إسرائيل، تمخضت عن توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام في 17 سبتمبر عام 1978، بوساطة الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، التي أعادت بموجبها إسرائيل سيناء المحتلة إلى مصر. وقد تمكنت مصر من تحسين علاقاتها مع دول العالم المتقدم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وحصلت على مساعدات أمريكية ودولية، وتنفست الصعداء رغم الحصار الذي فرضته الدول العربية عليها آنذاك، وبدأت مرحلة البناء والتطور، بدلا من تكريس جل مواردها الشحيحة للحرب.
للأسف أغتيل السادات في السنوات الأولى للسلام، قتله متطرفون إسلاميون لا يفقهون شيئا في السياسة أو العلاقات الدولية أو مصلحة بلادهم، وكانوا يأملون أن ينتهي السلام بمقتله، بينما كان السلام خيارا مصريا استراتيجيا، وليس خيار رجل واحد ينتهي بنهايته، والسلام هو نتيجة طبيعية لمسيرة البشرية التي يقودها العقلاء، فالكل يدرك أن الحروب لا طائل من ورائها غير الدمار والتراجع والتدهور وخلق الأزمات والكوارث الإنسانية.
استمر السلام وحققت مصر إنجازات كبيرة في ظله، وتمكنت من أن تلعب دورا محوريا في تقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين وإسرائيل، فجاءت اتفاقيات أوسلو التي أسست لقيام سلطة وطنية فلسطينية واعدة، كان يمكن أن تؤسس لدولة فلسطينية قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية، لو كانت قيم العقلانية والتسامح والمصلحة تسود المشهد. لكن المتطرفين الإسرائيليين اغتالوا الرجل الذي وقع اتفاق أسلو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، وللأسف أدى ذلك الاغتيال إلى عرقلة جهود السلام التي بقيت متعثرة بسبب التشدد والتدخل الأجنبي في القضية الفلسطينية.
لا شك أن الفلسطينيين الآن يدركون جيدا أن أحد أهم أسباب التراجع والفشل هو إخراج القضية الفلسطينية من إطارها الوطني الفلسطيني، وتحويلها إلى قضية عربية وإسلامية، بينما هي قضية الشعب الفلسطيني، الذي سُلِب منه حق إقامة دولته المستقلة على أرضه، وهذا الحق ثابت ولا غبار عليه، تؤيده المواثق الدولية وقرارا مجلس الأمن الدولي المرقمان 242 و 338، اللذان اعترفت بهما الدول العربية جميعا. كان يمكن العرب والمسلمين ودول العالم الأخرى المتعاطفة مع الحق الفلسطيني أن تساند الفلسطينيين وتقف معهم، وتفتح لهم قنوات الحوار مع الدول والشعوب الأخرى، وتقدم لهم الدعم المالي لتخفيف معاناتهم، ودون التدخل في شؤونهم، وكانوا سيستعيدون حقوقهم منذ زمن بعيد وبأدنى الخسائر.
لم يكن صحيحا ولا مفيدا أن تنوب الدول العربية والإسلامية عن الشعب الفلسطيني وتتحدث باسمه وتميّع قضيته وتجعل منها قضية خلافية بين العرب والمسلمين. لقد استفاد المتشددون الإسرائيليون من الخطاب العربي المتشدد الرافض ظاهريا للسلام والتعايش، ومن إخراج القضية الفلسطينية من أيدي أهلها الفلسطينيين، وكانوا يقولون لباقي دول العالم إن هناك 22 دولة عربية يمكنها أن تستوعب هؤلاء (العرب)، بينما إسرائيل دولة صغيرة وإن كل هذه الدول العربية والإسلامية تتحالف ضدها لتقتلعها من الوجود. وقد مكَّن هذا التبرير إسرائيل، إضافة إلى قدرتها على استخدام أساليب الدعاية والإعلام بطريقة مبتكرة، من كسب تعاطف غربي مكَّنها من تعزيز قدراتها في المجالات كافة، وإنكار الحق الفلسطيني.
وبعد إبرام اتفاقيتي السلام المصرية والفلسطينية مع إسرائيل، أبرم الأردن عام 1994 اتفاق سلام معها بوساطة الرئيس الأمريكي، بيل كلنتون، وتمكن نتيجة ذلك من التفرغ للبناء وإرساء دعائم الاستقرار والرخاء، ومنذ ذلك الحين حقق الأردن مكاسب كبيرة، على المستويين السياسي والاقتصادي والعمراني وأصبح واحة للسلام والاستقرار والاستثمار، استقطبت رؤوس الأموال العربية ورجال الأعمال العرب والأجانب، على رغم العراقيل التي حاول متطرفون وضعها في طريقه.
وتأتي اتفاقية السلام الأخيرة المعقودة بين دولة الأمارات العربية المتحدة وإسرائيل لتعزز مسيرة السلام الاستراتيجي التي بدأها المصريون ولحقهم الفلسطينيون والأردنيون. وتتميز اتفاقية السلام بين الأمارات وإسرائيل بأن الأمارات، وهي دولة ناجحة اقتصاديا وسياسيا بإجماع الآراء، اختارات أن تساهم في إرساء دعائم الاستقرار في المنطقة وأن تكون لاعبا دوليا مهما في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، دون أن تكون مضطرة إلى ذلك. فدولة الأمارات ليست دولة مواجهة، وغير متضررة في شكل مباشر من استمرار حالة اللاسلم واللاحرب السائدة بين العرب وإسرائيل، وخلال العقود الخمسة الماضية منذ الاستقلال، تمكنت الأمارات من تحقيق إنجازات كبيرة على مستويات عديدة، وأصبحت مدنها وبُناها الأساسية وخطوط مواصلاتها وصناعتها وجامعاتها وخطابها المعتدل والاستقرار والرخاء الذي رفل بها شعبها، محل إعجاب العالم.
اتفاقية السلام بين إسرائيل ودولة الامارات لا تعني أن أبوظبي سوف تتخلى عن مواقفها القومية الداعمة للشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه وإقامة دولته على أرضه، بل ستساهم في تعزيز الموقف الفلسطيني ورفع مستوى التفاهم بين العرب وإسرائيل ودول العالم الأخرى، من أجل مغادرة إخفاقات الماضي والإنطلاق نحو بناء مستقبل أفضل لشعوب المنطقة بأسرها. لقد تغير العالم كثيرا خلال العقود الثلاثة المنصرمة، ولم تعد الحروب الوسيلة الأنجع لحسم النزاعات، بل لم تكن وسيلة ناجعة يوما من الأيام، ولم تعد الأساليب والخطابات القديمة المتشنجة ملائمة في هذا العصر، الذي يعتمد على التفاهم والتعاون والتعايش والقبول بالآخر وحل النزاعات سلميا. الحروب فشلت في أن تحقق أي إنجاز للعرب، بل ساهمت في تراجعهم وتأخرهم عن ركب التطور العالمي.
ومازالت الأساليب القديمة قد فشلت، ولم تأتِ لنا بالتقدم ولم تعِد لنا الحقوق، ولم تحقق لنا الاستقرار والرخاء، بل أساءت إلى سمعتنا بين دول العالم، فالتأخر والتراجع السياسي والاقتصادي والهزائم العسكرية والدبلوماسية وعدم الاستقرار والفقر وضعف المؤسسات السياسية والاقتصادية، وأخيرا انتشار الإرهاب في مجتمعاتنا وتدهور الأمن في بلداننا، ولم تجلب لنا سوى ابتعاد دول العالم عنا، وتنامي شكوكها في قدرتنا على التعايش مع الآخر والمساهمة الإيجابية في النشاط البشري، وربما جلبت لنا الشفقة أحيانا، بسبب العجز واليأس اللذين هيمنا على حياتنا، فقد آن الأوان أن نسلك طرقا أخرى، طرقا عصرية يفهمها العالم ويتفاعل معها، طرقا مبتكرة تنال إعجاب الشعوب الأخرى وتساهم في تحسين صورتنا الدولية.
السلام سوف يجلب الاستقرار والرخاء ويحقق طموحات الشعوب العربية التائقة نحو حياة أفضل، وسوف يجعلنا أقوياء قادرين على التأثير في قرارات الدول الأخرى وسياساتها. السلام سوف يدفعنا إلى داخل اللعبة، التي بقينا خارجَها منذ عشرات السنين. اتفاقية السلام، سوف تتعزز مكانة دولة الأمارات الدولية، وتجعلها أكثر قدرة على خدمة القضايا العربية، ولا شك أن دولا عربية أخرى ستحذو حذوها، كما فعلت البحرين أخيرا، عندما ترى ثمرات السلام وتدرك أنه الخيار الأفضل. الخيار الآخر هو الانتظار، وهذا لن يحل المشكلة، فعامل الزمن ليس في صالحنا، وحالة انعدام الاستقرار التي تعم العالم العربي حاليا لن تقودنا إلى نجاح في أي اتجاه.