ففي البدء يجب التشديد على الدلالة التي تسكن كلمة "حلم" أو عبارة: "الحلم الأبدي بالتغيير"، لأن التجربة برهنت أن هذه التعويذة هي ما يجري على لسان الإنسان كلما ألمّت به نازلة، أو استقامت في حقّه بليّة، فيهرع في كل مرة ليتشبّث بأعطاف هذا المبدأ العصيّ، الذي لم يكن ليغدو في حياة الإنسان نشيداً، لو لم يكن أملاً بعيد المنال، يستجير به دوماً دون أن يدركه أبداً، لأنه يبحث عنه في الخارج لا لكي يجده، ولكن لكي يفقده، دون أن يتساءل عن سبب هذه الخيبة.

وهو ما يعني أن العالم سيخذلنا في كل مرة، ولن يتغيّر بالكارثة كما نتخيّل، أو كما نتمنّى، ولكنه سيخيّب ظنّنا به هذه المرة أيضاً، وسيعود إلى سيرته المثقلة بالأورام والمفارقات والأباطيل التي اعتدنا أن يمارسها في حقّنا دوماً، لا لشيء إلاّ لأننا لم نفهم حتى الآن أن هذا العالم الذي نعامله كبعبع معادٍ يسكن واقعاً آخر، ليس واقعنا، إنما هو انعكاسنا الذي لا نريد أن نعترف بهويّته كانعكاس لما فينا، كانعكاس للذخيرة التي تسكننا، فنناصبه العداء بوصفه الخصم، ولهذا السبب نخرج لمبارزته كلما استشعرنا الحاجة لتغيير ما بواقعنا، لأن ما يعجزنا دوماً هو الحقيقة العصيّة، القاضية بضرورة، أن نواجه أنفسنا في شأن التغيير، ونفعل المحال لكي نغيّر ما بأنفسنا، لأن في نفوسنا يقيم الأصل الذي نخشاه دوماً، فنفرّ منه دوماً، لنبحث عن خلاصنا خارجنا، ناسين أن العالم الذي ننشد تغييره كي يكون الأجمل، ولأعدل، والأنعم، هو ظِلٌّ، ورسالته أن يعكسنا، أن يعكس حقيقتنا، ولن يستجيب لأمانينا، في نيل الحرية، ما لم نعتنق التحدّي الأصعب، فنغامر بتغيير ما بالنفس. وهي بالطبع بطولة ليست بلا قربان، وسيرة الأنبياء وعظماء الحكماء أكبر برهان على حجم التضحية.

فالعداوة بيننا وبين العالم متبادلة، والسبب هو نحن. السبب في موقفنا منه كلقيط! نحن مَن أنكره ولهذا السبب أنكرَنا. أنكرناه منذ سلخناه من طبيعتنا، وعاملناه ككيان له حضور خارجنا، فسخر منّا وهزمنا. أي أننا نحن في الواقع من هزم أنفسنا، منذ تجاهلناه كأصل يسكننا، وذهبنا نحارب شبحه خارجنا، ناسين أننا ندخل في نزالٍ عدميّ مع الظلّ، لنقلب في وجودنا المعادلة بمعاملتنا للظلّ كأصل، بدل الأصل، فانهزمنا، كما انهزم السكتيّون في حربهم مع عبيدهم، عندما عاملوهم كأنداد، إلى أن اهتدوا بوصية الحكيم إلى السرّ، باستخدام السياط في حقّهم، بدل السيوف، فاستيقظت في العبيد طينتهم، فانهزموا!

نحن أيضاً في حربنا مع ظلّنا نعتمد خطيئة السكتيّين، وسوف لن نكسب حربنا مع العالم ما لم نعامل العالم كظلٍّ، يعكس أصلاً، يسكننا نحن، مادامت كل ذخيرتنا تسكننا، أو كل غنيمتنا في هذا الوجود بمعيّتنا، كما عبّر الحكيم "استيلبون" عندما دمّر الملك فيليب مدينته، وجرّده من كل ممتلكاته، بما في ذلك عائلته، نكايةً به، فلاقاه الطاغية عند باب المدينة خارجاً ليسأله ساخراً عن حاله، فلم يزد الحكيم على أن أجاب: "كُل خيراتي معي"!

فأمثال هؤلاء الذين حملوا كل حقيقتهم معهم هم مَن استطاع أن يغيّر ما بالعالم، لأنهم لم يكونوا ليحملوا كل خيرهم معهم، لو لم يغيّروا أولاً ما بأنفسهم، مثلهم مثل كل الأنبياء؛ في حين تبرهن لنا التجربة دوماً على عبث محاولة تغيير ما بالعالم، كما في حال الثورات، لتنتهي المغامرة في كل مرة إلى فشلٍ مهين!

وهو ما يعني أن العالم لن يتغيّر أبداً، ما لم نتغيّر. فما معنى أن نتغيّر؟

معنى أن نتغيّر يعني أن نتحرر. وتحرير واقعنا من الأوهام رهين تحرير ما بأنفسنا. أي رفض ميلادنا بصيغته الطبيعية، وتحقيق أعجوبة البعث. تحقيق الميلاد الثاني. الميلاد بالروح هذه المرة لا الميلاد بالجسد الذي لا فضل لنا فيه، ولم نختره لأنفسنا، ولكننا نلناه بمشيئة الطبيعة بالمجّان. وسيرة المجّان هذه هي محنتنا في العلاقة مع التغيير الذي ننتظره من العالم، عندما نتغنّى، كعادتنا، بالخلاص الذي قد يأتي لنا به العالم، محمولاً بحرف البلايا، كالوباء وما شابه الوباء، دون أن ندفع فيه ثمناً مشروطاً بنزيفنا الباطني، نزيفنا الروحي، المشفوع بالحقيقة التي تسكننا، والأعظم شأناً من النزيف البدني، الذي ندفعه بحرف النزاع، المصاحب لكل الثورات التي نعتمدها ناموساً لتحقيق الخلاص المأمول، المسمّى في معاجمنا تغييراً!

ولا أحسب أن هذا ضمانٌ كافٍ في حال درس كالوباء، لأن تغيير ما بالأنفس يجب أن تصاحبه توبة في شأن العلاقة مع الطبيعة، ومع القيم الأخلاقية التي نصّبناها في حياتنا ناموساً في حمّى هوسنا ببدعة اسمها العولمة، كخطايا في حقّ حرمات اعتمدتها الطبيعة قدس أقداس، كالحدود التي استهترنا بها مثالاً، وتناولنا سيرتها في مكان آخر من هذه اليوميات.

فالحدود ليست قسمة طبيعية وحسب، ولكنها قسمة ذات بُعدٍ غيبيّ أيضاً، بدليل هذه الهالة القدسية التي تُجلّل كل حدٍّ جغرافيّ، حيث دلّلت التجربة على هذه السجيّة فيها من خلال قدرة الحدّ الحدودي بين الأوطان على استعادة هويّته الأصليّة مهما حاول أسياد هذا العالم استقطاعه من منبته، وضمّه إلى إمبراطوراتهم التي لا تشبع من التهام الأراضي. وهو ما يعني أن هذه الحدود التي نستخفّ بحكمتها، هي قدرٌ مرسوم لا يختلف عن شطآن البحور التي لا تجتاز حدودها، لأنها لو فعلت لأهلك الطوفان عالمنا؛ تماماً كما لا تتخطّى الأرض، ككوكب سابح في الفضاء الكوني، مجالها الصارم، المكوّن لمسارٍ غيبيّ، لأنها لو فعلت لانفلتت من مدارها، لِنَفنَى بخللٍ فلكيّ.  

فهل كان الوباء سينتشر بهذه السرعة الفلكية التي اكتسح بها العالم، أو بهذا النطاق الشاسع الذي قطعه في زمن قياسي، فيما لو ظلّت حرمة الحدود قائمة على النحو الذي كانت عليه قبل العولمة؟

كلّا بالطبع. العولمة التي ظللنا نتباهى بها طوال العقود الأخيرة كانت في واقع عالمنا بمثابة حجر الزاوية في كيان الشبح الذي انطلقت منه أوبئة كثيرة أخرى، لم يكن الوباء التاجي سوى تتويج لها. والحدود لم تكن قبل العولمة سدوداً لمنع تواصل الإنسان بأخيه الإنسان، ولكنها كانت بمثابة البوّابات التي تنظّم حركة الدخول والخروج بين الحدود، وأداة تقنين حكيمة، تجير من الشرور التي تتشبّث بتلابيب العابرين الحاملين للجرثوم لكي لا ينقلوا العدوى لأغيارهم في الوطن. فمبدأ الحدّ وُلد متزامناً مع ميلاد الكيان. مع ميلاد العشّ الجامع لشتات قومٍ اختاروا تسليم زمام الأمر للمكان، لكي يكون لهم حصناً يجيرهم من أطماع أغيار، ليستعير مع الزمن إسماً مسكوناً بقداسة وهو: الوطن. ومن الطبيعي أن تتحوّل حميمية العشّ في وجدان إنسان سكن إلى مكانٍ وسوسةً غيبيّةً تربّي فيه الإحساس بما نسمّيه اليوم انتماءً، يستنزل تحريماً في الكيان، الدخول إليه يستدعي طقوساً لا تختلف عن طقوس الدخول إلى المعبد. فهو، منذ اللحظة حَرَمٌ، حلول الغرباء في أرضه يستوجب مكوساً هي ضربٌ من صلاة.

هو الآن محيطٌ محرّم، مسكون بروح المعبود، الأحراس الواقفون على بوّابته هم، في منطق المواطن، سدَنَةٌ، كهنةُ معبدٍ، والرسوم المستوجب دفعها هي بمثابة قرابين لاستعطاف المعبود كي يأذن للضيف، ويجود عليه بالأمان طوال مقامه داخل هذا الحيّز المقدّس. وفي العادة فإن هذه الأذونات تُمنَحُ وفق مهلةٍ محدّدة، وليست مطلقة. أي أنها لأمدٍ محدد لقضاء حاجة، وليست للمقام بأيّ حال. والحوليات تحدّثنا كيف كانت هذه الجوازات تُمنح لدخول بوّابات المدن، وفي الواحات أيضاً حتى الأمس القريب، بصلاحية يوم فقط، على صاحب الشأن التقيّد بها والخروج من البوابة قبل حلول المساء. حدث هذا لا على مستوى الأوطان وحسب، ولكن على مستوى المدن أو الواحات داخل الوطن الواحد.

بهذه الفلسفة استطاع الأسلاف ضبط الحدود، لا في مدلولها الجغرافي وحده، ولكن في بُعدها المجازي أيضاً، بما في ذلك القانون الوضعي، أو كل ما متّ بصلة للقيم الأخلاقية. واليوم، عندما تتعالى الأصوات بنداء التغيير، فإن رد الاعتبار للحدود، التي سفهتها فوضى العولمة، سوف يكون جديراً بأن يحتلّ منزلة الأولوية في فتحٍ تستعيد به الأوطان هويّتها الضائعة، كعتبة أولى في سلّم استرداد الانضباط المفقود، الذي لم تدرك سلطات الأمم كم هو كنزٌ نفيس إلاّ بعد الآلام المجترحة بفعل الوباء، لأن ردّ الاعتبار هو انتصارٌ لمشيئة الطبيعة التي استهنّا بها، ولن تغفر لنا ما لم نكفّر عن خطايانا، وبدل أن نعمل على تغيير الخرائط التي تسري فينا، ونهدم الطلول التي تسكننا، رحنا ندمّر الحدود الواقعة خارجنا، ونحطّم السدود لنغيّر مجاري الأنهار، ونحلم بعمل ما من شأنه أن يجعل كوكب الأرض يهجر مداره، ظنّاً منّا أن سعادتنا رهينة تغيير ما بعالمنا، وليس تغيير الذخيرة التي تسكننا.

إنه المفهوم المعتمد في أحكام الشريعة، باعتبار الحدّ موقفٌ عقابيّ. قصاصٌ على تجاوز. ترياقٌ لكبح جموح الشهوة البشرية، أو اقتراف خطيئة في حقّ حرَم. والأرض في حال استعارت هوية قدسية كالوطن، تكتسب تحريماً، يحرّرها من البُعْد الجغرافي، ليستنزلها منزلةً غيبيّة، استقت منها الملكية صفة القدسية الشائعة، عندما جرّدتها من بكارتها كفضاءٍ مشاع، لتتبوّأ مرتبة الحصانة، القرينة لكل خصوصية. وكل كسر للحظر في شأن حدودها هو تجديف. فالإيمان بوجود الحدود، اعتراف بوجوب التّقيّة، والاعتراف بوجوب التقيّة، اعتناق لدين التقوى!