ولا تُظهر هذه الحكومة أي مؤشر على إمكانية تحقيقها لأي إنجاز استثنائي في هذه الملفات، خلال قرابة السنة الباقية من عمرها، الوقت الفاصل إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة، في صيف عام 2021.

بعد سبعة عشر عاماً من الاحتلال الأميركي، وإسقاط النظام العراقي السابق، فإن حكومة الكاظمي كانت الأولى التي أتت من خارج النخبة السياسية التي تدفقت على البلاد بعد ذلك الحدث الاستثنائي. كذلك فإنها الحكومة الأولى التي لا يرأسها شخص من طيف تنظيمات الإسلام السياسي، الشيعية منها بالذات، وتحديداً من حزب الدعوة الإسلامي، الذي شكل ثلاث حكومات متتالية (2006-2018).

فوق ذلك، فإن حكومة الكاظمي تشكلت بعد ثورة شعبية عارمة، حدثت بالذات داخل البيئة والديموغرافية ذات الأغلبية الشيعية في البلاد، وكانت تملك مطالب إصلاحية محددة وواضحة، فجاءت حكومة الكاظمي وكأنها استجابة من قِبل القوى السياسية/الحزبية الحاكمة لتلك المطالب، حينما وافقت على تشكيل حكومة من "المستقلين".

على أن كل تلك السمات التي تمتعت بها حكومة الكاظمي، لم تمنحها الطاقة والأدوات اللازمة لتحقيق ما أتت ووعدت بتحقيقه، بالذات في الملفات الرئيسية الثلاثة، التي تكبل كل أشكال الحياة العامة في البلاد: مطالب المتظاهرين بالإصلاح الإداري والاقتصادي، الذي يمر حتماً عبر تفكيك الميليشيات المسلحة وحصر السلاح بيد الدولة، إلى جانب خلق توافق سياسي واقتصادي مع إقليم كردستان العراق، وإعادة بناء المناطق السُنية المحطمة. حيث لم يتحقق فعلياً أي شيء من كل ذلك.

لا يتعلق الأمر بالمصداقية والإرادة السياسية للكاظمي وطاقم حكومته؛ بل إن المعيقات تتجاوز ذلك، لتكون تماهياً موضوعياً مع الوقائع والتوازنات والسمات الثابتة للبنية التحتية الصلبة للحياة السياسية العراقية، تلك التي تتمتع بها وتفرضها قوى الحكم الفعلية في البلاد، المتمثلة بالأحزاب الشيعية المركزية، التي تستحوذ على تنظيمات مسلحة متوغلة في مناحي ومؤسسات وأجهزة الدولة العراقية كافة، الأمنية والعسكرية والاقتصادية منها بالذات.

تلك القوى المتحكمة التي تُعتبر العصب والأداة المركزية والفعلية لتحديد التوجه والخيار الاستراتيجي لأي حكومة/سلطة حاكمة للبلاد، أياً كانت الشروط والظروف التي أتت بها وعبرها. هذه السلطة التي تعتبر عملياً "النظام السياسي" الحاكم للبلاد، مع بعض المساحات والهوامش التي تتركها لغيرها من أشكال وقوى العمل السياسي.    

بعد مرور مئة يوم من عمر حكومة الكاظمي، وبالرغم من سيطرته المباشرة والرسمية على الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد كافة، كقائد أعلى للقوات المسلحة، فإنها لم تكشف عن الجهة التي أقدمت طوال عام كامل على اغتيال أو قتل أكثر من ألف متظاهر وناشط مدني عراقي، على الرغم من كل الوعود التي قطعها للكشف عن ذلك، وطبعاً مع معرفته التامة بالجهات التي تقف وراء ذلك، لكن من دون أن يمتلك الجرأة والأدوات لمواجهة الدولة العميقة في البلاد، التي تمثل النظام السياسي الجديد.

فوق ذلك، استمرت عمليات الاغتيال تلك، حتى لأقرب المقربين من الكاظمي نفسه، مثل الكاتب والباحث هشام الهاشمي، من دون أن تتمكن الأجهزة الحكومية العراقية من كشف أو تحديد أو مقاضاة الجهة الفاعلة. هذا غير غض نظرها التام عن المطالب الحقيقية والبسيطة لملايين المتظاهرين العراقيين، المتمثلة بضرورة فرض الدولة لهيبتها وسيطرتها على الحياة الأمنية والاقتصادية في البلاد، عبر إخراج الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات الاقتصادية من يد سلطة الميليشيات.

صحيح أن الكاظمي نفذ بعض الإجراءات الشكلية، مثل دفع الجيش العراقي للسيطرة على المنافذ الحدودية، لكن جميع المؤشرات تقول إن تلك الممارسات كانت مجرد حفظ لماء الوجه، لغض النظر عن القرار الفعلي الذي يجب أن يتم اتخاذه في ذلك الاتجاه، المتمثل بحل مختلف تنظيمات ميليشيات الحشد الشعبي، أو إدماجها بالجيش والقوى الأمنية العراقية النظامية، وأن تكون تابعة فعلياً ومباشرة لقيادة أركان الجيش العراقي، وليس للأحزاب السياسية الإيديولوجية. هذه الخطوة التي تمس فعلياً ومباشرة سلطة هذا النظام السياسي الحاكم فعلياً للبلاد.

الأمر نفسه حدث بالنسبة للملفات العالقة مع إقليم كردستان العراق. فحكومة الكاظمي لم تكن جسورة في اتخاذ قرارات وتفاهمات مباشرة مع حكومة إقليم كردستان العراق، تحلحل القضايا العالقة بين الطرفين، مثلما كانت تفعل الحكومات السابقة التي كانت تستند إلى دعم حقيقي من القوى البرلمانية النافذة المتحالفة مع الأحزاب الكردية. كذلك فإن حكومة الكاظمي لم تتواصل إلى اتفاقات تشريعية مُبرمة بشأن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الإقليم والسلطة المركزية، لافتقادها لأي أغلبية سياسية تمكنها من تمرير ذلك برلمانياً.

ربما يملك الكاظمي إرادة إيجابية تجاه إقليم كردستان، ومعه أغلبية واضحة من أعضاء حكومته، بحكم العلاقات الشخصية والتكوين الرمزي والإيديولوجي الليبرالي الذي يجمع الطرفين، لكن صعوبة جولات التفاوض الكثيرة بين الطرفين طوال الشهور الثلاثة الماضية، أثبتت بأنه ثمة ما يتجاوز الإرادة والرغبة المشتركة للطرفين الحكوميين. صعوبة متمثلة بقوى الحكم المركزية، التي لا تريد لإقليم كردستان الحصول على أي استقلالية، ولو اقتصادية أو تشريعية، تمنحه حرية كافية للتحكم وإدارة موارده.

الأمر عينه جرى في ملف المناطق السُنية المدمرة. فالكاظمي الذي استمر بعرض نفسه كشخص وخيار سياسي من خارج البنية السياسية الحزبية العراقية الطائفية، لم يتمكن من وضع رؤية استراتيجية واضحة المعالم لإعادة إحياء المناطق السُنية المدمرة. إن عبر إخراج الميليشيات الطائفية منها، أو برصد ميزانيات مناسبة لإعادة تشييد البنية التحتية المحطمة، أو منح القوى السياسية السُنية شراكة حقيقية في متن الحياة العامة للبلاد.

 لم يتمكن الكاظمي من فعل ذلك، لأن الهيمنة الأمنية والاقتصادية على المناطق السُنية، تعتبر ركيزة في نواة النظام السياسي العراقي، ولا يمكن لأي حكومة أو سلطة أن تتجاوزها.

أثبتت حكومة الكاظمي، التي أتت بعد فورة شعبية استثنائية، بأن التغيير في العراق لا يمكن أن يأتي عبر الاحتجاجات الشعبية، التي يمكن مواجهتها بكل عنف، ومن دون أي رادع، وكذلك لا يمكن للتغير أن يحدث عبر حكومة رسمية وظاهرة، أياً كانت إرادتها وبرنامجها السياسي. وأن الحل السلمي الوحيد هو بإحداث تغيير واضح وقطعي في التوازنات البرلمانية، لصالح القوى المناهضة للدولة العميقة في البلاد. أنه عام العراقيين الأكثر صعوبة.