مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة في نوفمبر تشرين الثاني المقبل، ترنو الأنظار ناحية واشنطن، عاصمة الدولة التي لا تزال مالئةً الدنيا وشاغلةً الناس، كقول المتنبّي، وحتّى في أسوأ الفروض، ستضحي الأوّل بين متقدّمين أو متساوين.
تدرك شعوب المسكونة أنّ الساكن في البيت الأبيض قابضٌ على جمر الأحداث الدوليّة بدرجة عالية، وفاعلٌ ومؤثّر في جُلّ الملفّات الأمميّة، إن لم يكن كلّها، ولهذا يحاول الجميع قراءة خطوط طول وعرض الرئيس الأمريكيّ القادم، والاستعداد لملاقاته إن جاز التعبير.
الإشكاليّة في ماهية الرئاسة الامريكيّة، أنّها متقلّبة ومتغيّرة، فما من "كود أخلاقيّ" واحد يجمع رؤساء أمريكا، إذ كلٌّ له رؤاه الخاصّة، ولهذا فقد صدق الرئيس الباكستانيّ الراحل الجنرال "ضياء الحقّ"، حين شبّهَ التحالف مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، بالعيش على ضفاف نهر كبير، الأرض خصبة جدًّا، لكنّ كلَّ أربع أو ثماني سنين، يغيِّر النهر مجراه، قد تجد نفسك وحيدًا في الصحراء.
هل عالمنا العربيّ توفّره الحيرة العالميّة بين الديمقراطيّين والجمهوريّين لا سيّما في الانتخابات الرئاسيّة القادمة؟
قبل الجواب ينبغي أن نشير ولو في عجالة إلى أنّ التقاطعات العربيّة الأمريكيّة منذ أوائل القرن العشرين وحتّى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لم تكن يومًا صفاء زُلالاً، أو سخاءً رخاءً، وإنّما تراوحت بين هذا وذاك، شدٍّ وجذبٍ، علاقات دبلوماسيّة، وقطعها، فترات من الوئام وموجات من الخصام، رؤساء اقتربوا من مراحل الأولياء الصالحين، وآخرين مثّلوا في مسارات ومساقات العالم العربيّ أشرارًا طالحين.
بعض النماذج الحديثة تخبرنا أن رئيسًا ديمقراطيًّا مثل "ليند بنز جونسون"، كان وبالاً على العالم العربيّ، إذ زخم ودعم إسرائيل بشكل غير مسبوق في حرب الستّة أيّام عام 1967.
ومن متناقضات القدر كذلك أن تصادف مسيرة الرئاسة الأمريكيّة رئيسًا ديمقراطيًّا آخر، هو جيمي كارتر، كان مملوءًا من روح السلام، وبذل جهودًا غالية وغالية، وقَدَّم محفِّزات كبيرة ومهمّة لإقامة السلام في المنطقة الشرق أوسطيّة بين العرب وإسرائيل، تُوِّجت باتّفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل العام 1979.
على صعيدٍ مقابلٍ، هناك رؤساء جمهوريّون تركوا بصمات سيحكم عليها التاريخُ مثل جورج بوش الابن، على الرغم من أنّ التاريخ عينه يضع والده بوش الأب في مصافّ الرؤساء المنصفين والأصدقاء للعالم العربيّ، إذ لعب دورًا مهمًّا حيويًّا وحاسمًا في استنقاذ الكويت، وربّما بقيّة دول الخليج العربيّ من كارثة الغزو الصّدّاميّ، قبل ثلاثة عقود من الزمن وفي مثل هذه الأيّام من شهر آب/ أغسطس عام 1989.
السطور المتقدّمة تعني أمرًا واحدًا باختصار مفيد، وهو أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة دولة مؤسّساتيّة، قائمة على منهج فلسفيّ واضح للغاية، هو البراجماتيّة الذرائعيّة النفعيّة، أي السعي إلى تعظيم أرباحها الإمبراطوريّة حول العالم، وتحقيق أهدافها التكتيكيّة وصولاً إلى رؤاها الإستراتيجيّة، سواء كان الرئيسُ ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا، ذلك أنّه محدَّد الصلاحيّات بدستور مثير على قلّة عدد بنوده، لكنّ الآباء المؤسِّسين كانوا من البراعة والفطنة أن جعلوا السلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة في حال رقابة دائمة على بعضهم البعض، وذلك قطعًا على أيّ إرهاصات لاستئثار أيٍّ منهم بسلطات تعكِّر صفوَ الحياةِ الديمقراطيّة الوليدة.
يشعر البعض في عالمنا العربيّ بنوع من القلق من جَرّاء تقدم جوزيف بايدن المرشَّح الديمقراطيّ في استطلاعات الرأي، على منافسه الرئيس الجمهوريّ، ساكن البيت الأبيض دونالد ترامب. والسؤال: هل القلق في محلّه، وما سببه؟
الثابت أنّ بايدن أمضى ثماني سنوات في البيت الأبيض نائبًا لباراك أوباما، لم يشعر به أحد، ولم يكن سوى ظِلّ للرئيس، ولم تُعرَف عنه أيّ كاريزما خاصّة أو موهبة بعينها تميّزه، ومن بين مواصفات الرئيس الأمريكيّ، أيّ رئيس، أن يكون بالضرورة كاريزماتيًّا في جانب أو أكثر من جوانب حياته في أضعف تقدير.
على أن المخاوف من بايدن مردُّها الحقيقيّ أنّه حال فوزه سيكون بمثابة فترة ولاية ثالثة لأوباما، والأخير تسبَّبَ للعالم العربيّ في كارثة لا تزال آثارها باقية، من خلال دعمه لجماعات الإسلام السياسيّ، وسعيه المباشر وغير المباشر، لإتاحة الفرصة لهم للوصول إلى مراكز الحكم والقيادة في بعض دول المنطقة، قبل أن يقوم المصريّون بثورتهم الشهيرة ضدّ جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو من عام 2013.
المخاوف من بايدن مقدّرة ومفهومة ، لكن على الجانب الآخر هناك أيضًا من ينظر لترامب نظرة بها الكثير من القلق فقد حفلت ولايته الأولى بالكثير من القرارات الشِّقاقِيّة لا الوفاقيّة، منها نقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدَّسة عاصمةً أبديّةً لدولة إسرائيل، وصولاً إلى المواقف المتّسمة بالميوعة من الأغا العثمانليّ المُعتلّ والمُختلّ، وما يقوم به في الشرق الأوسط من سوريا والعراق وصولاً إلى ليبيا، وكلّها في حقيقة الأمر لا تخدم ولا تصبّ في صالح الأمن القوميّ العربيّ في الحال، كما أنها لا تُبشِّر بالخير في الاستقبال أي حال فوزه بولاية ثانية.
ماذا يعني ذلك؟
حتمًا العلاقات العربيّة الأمريكيّة في حاجة إلى تصويب مسار أبعد ما يكون عن اختزال العلاقة مع البيت الأبيض فقط وساكنه ديمقراطيًّا كان أو جمهوريًّا، وحتى ننشغل أو نخشى من أيّ رئيس قائم أو قادم فإنّ هناك ما يتوجّب عمله.
حجر الزاوية المتين الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقات ذات الأبعاد الثنائيّة الجوهريّة، لا الفوقية الإمبرياليّة، بين أمريكا والعرب، هي الرأي العامّ الأمريكيّ، رجل الشارع، وسائل الإعلام التقليديّة، ووسائط التواصل الاجتماعيّ المحدثة.
ما تقدم هي الأدوات التي تصنع الصورة عن العرب، ويمكنها أن تقدم للأمريكيّين صورة ملائكة أو شياطين، وغنيٌّ عن القول أنّه في أمريكا إن لم تبادر برسم صورتك كما تريد، هناك من يتطوّع لفعل ذلك كما لا تريد.
الجزئيّة الأخيرة والتي يحسب الداعي لكم بطول العمر أنها تمثّل أهمية خاصّة، هي كيف لنا أن نقدّم ذواتنا العربيّة للأمريكيّين أفرادًا ومؤسَّسات، كرقم صعب على خارطة الشطرنج الإدراكية الأمميّة، وبنوع خاصّ في هذا التوقيت العالميّ الذي يعاني العالمُ فيه من فراغ إستراتيجيّ مفزع.
بايدن أو ترامب ليست القضيّة. طرح القضايا يبدأ من الذات لا من الآخرين.