البلايا دوماً معلّمٌ لا يُقبل علينا عادةً إلاّ لكي يجبرنا على إعادة النظر في واقعنا، كأنْ نُقلع عن بعض عاداتنا، التي اعتمدناها أفيوناً في حياتنا، هذا إن لم تنطوِ رسالة القارعة على فحوى أعظم شأناً، كالحاجة إلى تغيير ما بأنفسنا؛ سيّما في واقع عالم اليوم الذي أدمن فيه الإنسان الاستهلاك، لتستعبدنا أشياء نستطيع أن نستغني عنها، لأننا في الواقع لسنا في حاجة إليها.

ولكن بسبب تساهلنا، استطاعت أن تنال سلطةً علينا، حتى إذا حلّ في ديارنا رسولٌ كالوباء ليعرّي في واقعنا الأشياء، تكشّفت لنا حقيقة الأشياء، ليبطل مفعولها، لندرك كم هي تجديفٌ هذه الحمّى في اقتناء الأشياء، وشهوة أن ننال الأشياء في ممارسات كل يوم، هي ورمنا الخبيث؛ وما وصيّة حكيم الأجيال سقراط في إدانة الأشياء التي نستطيع أن نستغني عنها إلاّ علّة سخرية، ولا نستشعر الغثيان من التوق إلى الترف إلاّ ساعة تُقرع أجراس الحقيقة بنداء قيّامة، اغتربت عنّا بدوّامة البهتان، برغم يقيننا، الموروث عن أسلافنا، بحضورها في البعد المفقود، ولكنه مرحّل في نشاطنا الدنيوي اليوميّ إلى أجلٍ غير مسمّى. ولا نعترف بها كقيامة تسكننا، إلاّ عندما تباغتنا، متنكّرةً في مسوح دسيسةٍ غيبيّةٍ اسمها: الوباء!

الأحد 26 إبريل 2020

ما سرّ نزعة الاستهانة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم في واقع المملكة الإيبيرية؟ هل استهانة المواطن بالوباء عدوى مستعارة من استهانة السلطات بالجائحة، أم العكس هو الصحيح، عملاً بالوصية القديمة القائلة "كما تكونون يولّى عليكم"؟

فالوباء لم يقتنص الناس إلاّ بنقطة ضعفهم الخالدة المبثوثة في حرف الهوس بالأعياد، لإشباع الجوع إلى الاحتفاء، فما كان من السلطات إلاّ أن هادنتهم، لكي لا تخسر في الانتخابات أصواتهم، لينتهز الوباء الفرصة، فينقضّ بتلك الشراسة التي نصّبت إسبانيا على رأس قائمة الدول الموبوءة. فهل الاستهانة بالوباء تعبيرٌ عن طبيعة كامنة في الإنسان تترجم استهانة ببعبع الموت الذي يقول أبيقور أننا لا نلتقيه أبداً في حياتنا، لأن حضوره في واقعنا مشروطٌ دوماً بغيابنا، وحضورنا في الوجود رهين غيابه، كأنه يخافنا أيضاً كما نخافه؟

فالواقع أن الموت نصيرٌ لنا في تحقيق أحلامنا، بدليل أنه يعجّل بلوغنا نقطة النهاية في سباق نحن الذين آلينا على أنفسنا الفوز فيه بقصب السبق دوماً، وبلوغ نقطة النهاية في الرحلة الدنيوية ليس له، بالمنطق، أن يكون في القاعدة استثناءً!

الأحد 26 إبريل 2020

إنسان اليوم، المسكون بنرجسيّته، المدمن على أفيون أنانيّته، لم يدرك حتى الآن ذخيرة الرسالة التي تلقّاها من جناب الطبيعة، المترجمة في حرف الوباء.

وها هو يتوثّب للارتواء من نبع الاحتفاء، الذي لا يُروي، كما اعتاد أن يفعل كل عام، بمناسبة حلول عيد الفصح، كأنّ الكارثة لا تعنيه، ومئات ألوف الضحايا التي حصدتها الجائحة خرافة حدثت في رحاب كوكب آخر، في زمن أسطوري آخر، لا تمتّ بصلة لواقع اليوم، كأنّه يتباهى باستهتاره بالمأساة، تماماً كما تباهى بالأمس القريب باستخفافه بالواجب، وبالقيم الأخلاقية، وبالبيئية، وبكائنات الطبيعة، وحتى باستهزائه بحقوق أخيه الإنسان، لأن حمّى هوسه بالاستيلاء على نصيبٍ جديد من الحرية (التي أضحت حريات) ونصيب مطلق من الحقوق، أنسته وجود حقوق الآخر، بل وألغت في يقينه وجود الآخر نفسه. لأن ما غاب عنه هو طبيعة آثمة تسري في طينة كل الفانين، الذين لا يتذكّرون كم هي العافية فردوسٌ ما لم يستطعموا مرارة المرض، وكم هي النجاة حياة ما لم يحيوا تجربة غرق!

والإصرار على الارتماء في أحضان الاحتفال بعيد الفصح هو بمثابة استفزاز للقدر، لن يشفع فيه حتى المسيح نفسه، لأن المسيح نبيّ، والأنبياء لا يتدخّلون في مشيئة القدر!

الاثنين 27 إبريل 2020

الصين لعبت في المعادلة الجديدة دور العصب كما حدث مع كل الأوبئة السالفة.

والواقع أن هذا الحصن، المستجير بجدران أسواره الأسطورية، كان مستودع الأوبئة دوماً، كما كان في القدم مستودع الحكمة.

وكيف لا يكون كذلك إذا كان كتابه المقدّس "الثاو" هو أوّل من سنّ الناموس الذي نصّب الصين نموذجاً يختزل الوجود كلّه، كما تترجمه عبارة شعرية هي "ما تحت قبّة السماء" للدلالة على هويّة هذه القارّة كرديف للعالم، فانكفأت على نفسها، وتشبّثت بتلابيب ذاتها، مستعيرةً دور المشاهد لفصول المهزلة البشرية التي تجري على خشبة المسرح خارجها، لتستثمر عزلتها، فتفاجئ عالمنا في كل مرة بثمار منفاها، بدايةً بالرقم الخرافي في الكثافة السكّانية، ونهاية بالمجد الاقتصادي الذي تحقّق بوثبة زمنيّة قياسية، مقروناً بنيّة مبيّتة لتحقيق حلم "ما تحت قبّة السماء" كنبوءة لن تكتمل بدون ابتلاع العالم بشتّى الحيل!

وهي حيلٌ تنوّعت في مسيرة هذا التنّين الأصفر، الذي لم يستجر بسوره الأسطوري من باب الزهد في حطام العالم، ولكن لانشغاله بحبك مكيدةٍ ضدّ العالم، كما يليق بكل ناسك لن يضمن الفوز في المبارزة مع العالم بدون اللجوء إلى الزاوية لالتقاط الأنفاس.

وقد جرّبت الصين عقاراً آخر لكتم أنفاس الخصم، عندما أغرقت أسواق العالم بالسلع الموبوءة بالأورام الخبيثة، في وقتٍ سبق استعمالها لسلاح الوباء، بل لأسلحة الأوبئة التي تتواصل منذ مطلع هذا القرن، في وقتٍ تزامن أيضاً مع زحف التنّين على كل القارات بمشاريعه الاقتصادية، بعد أن اكتشف فعالية الاقتصاد كسلاح هيمنة، مستثمراً التجربة الألمانية التي استبدلت السلاح الحرفي، في بُعده الحربي، في تصريف طاقاتها الحيوية الاستثنائية، بعد الحرب العالمية، لتوجهها لحقن الاقتصاد بسحرها، فتستولي بهذه التعويذة على كل أوروبا! وهي تجربة اعتمدتها اليابان أيضاً في إخضاع آسيا، ممّا يعني أن الحرب العالمية لم تنتهِ في الواقع، كل ما حدث هو استبدال العدّة، استبدال سلاح حرفيّ بسلاحٍ آخر سلميّ، ولكنه أكثر فتكاً على المستوى الفعليّ.

فلماذا لا يحقّ لضحيّة الأفيون أن ينتقم من جلّاديه بسلاح أقوى مفعولاً من كل أفيون؟ لماذا لا يحقّ للأفعوان المستكين، الملقّب في الأدبيّات المقدّسة بـ يأجوج ومأجوج، أن يحقّق حلماً استودعه وصيّة الأجيال المتوارثة، المبثوثة في "ما تحت قبّة السماء"، فينقضّ للاستيلاء على ما تبقّى، ليضمن الهيمنة المطلقة على ما تحت قبّة السماء فعلاً، لا مجازاً؟

فبأيّ حقّ تستهجن إسبانيا أن تستلم شحنة أجهزة التنفّس، المدفوعة الثمن من الصين، لتكتشف أنها مغشوشة، عجّلت بوفاة المصابين بوباءٍ مستعارٍ أصلاً من الصين؟

لماذا يستنكر العالم اليوم أن يتلقّى من الصين المعدّات التقنيّة المزيّفة، وهو الذي تلقّى منها بالأمس البضائع المسرطنة بالأورام، وبرغم ذلك لم يتردّد في أن يسلّمها مفاتيح اقتصاده، لتحتكر الصين الصناعة بالإنابة عنه؟

فالسلطة هي المعبود الذي لا يتحقق هنا بدون الهيمنة. والهيمنة هي ما لا يُنال بدون الاحتيال للإيقاع بالغنيمة. والأوبئة، كما الأورام، كما الاستحواذ على الشرايين الاقتصادية، هي بمثابة الرُّسُل لتحقيق البُغْيَة. والصين لم تتراجع أبداً عن استخدام هذا الثالوث، برغم حملات الإدانة، يقيناً منها بأنها أسلحة أقوى مفعولاً من ترسانة الأسلحة النووية، وأعظم سلطاناً من مفارز الجيوش النظامية. فهل تجني الصين قصاصاً لمخالفتها وصية الوصايا في كتابها المقدّس "الثاو" التي تحذّر من مغبّة الاستسلام لإغواء "الفعل" على حساب فلسفة "اللا فعل"؟

الاثنين 27 إبريل 2020

التحدّي الذي واجه سلطان العالم في سبيل عزل الإنسان عن الحضور في رحاب أخيه الإنسان، كإجراء احترازي لإيقاف زحف الوباء، يعود إلى جذور علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهو ما راهن عليه الوباء في تنفيذ حكم الإبادة في حقّ إنسان يختزل في شخصه الإنسانية كلها. فالمقاومة التي واجهت السلطات في حملات فصل الناس عن بعضهم البعض هي بمثابة ترجمة للعقلية التي ترى في وجود الإنسان قنبلة تستهدف قرينه الآخر. والإنسان، في حال الوباء، بالفعل قنبلة بالنسبة للآخر، ولكنها القنبلة التي لا فرار منها، لأنها قدرٌ غيبيّ معترف به مسبقاً.

إنها القنبلة التي لا غنى عنها، والإنسان مجبر بالفطرة أن يفرّ ليرتمي في أحضانها، بدل أن يطلب الخلاص بالفرار منها، كما تريد له السلطات أن يفعل، لأنها لا تدري أن هذا المخلوق سوف ينزف بغياب الآخر، وسوف يهلك حزناً فيما إذا افتقد، في وجوده، وجود الآخر.

ولهذا السبب يستبسل في المقاومة، ويخرق الحظر بكل الحيل، ليقينه بأن الحضور في الخطر أهون مصيراً من انعدام الوجود في فردوسٍ مسكونٍ بأخيه الإنسان، برغم موقفه الملتبس من هذا الإنسان، الذي لا يتردّد في أن يناصبه العداء أيضاً ما أن يلتقيه، وبرغم أنه على استعداد لأن يفتديه بوجوده في حال اغترابه عنه، كما يفعل بمسلكه في كسر الحظر رغم أنف العقوبات.

وسرّ جنونه في ملاقاة أخيه، ليس مجرد احتجاج لقيام السلطات بتقطيع أوصاله، وتغريب عضو من أعضائه عن جسده وحسب، ولكنه اعتراضٌ صريح على مذبحة أعظم شأناً، وهي تجريده من روحه، لأن الروح وحدها كلٌّ غير قابل للتجزئة، معجزة ترفض بطبيعتها القسمة، ومحاولة حجبها عن واقع هذا الإنسان هو بمثابة استصدار حكم بالإعدام في حقّ هذا الإنسان؛ كأنّ هذا الإنسان، في حمّى علاقته الملتبسة بأخيه الإنسان، يأبى إلاّ أن يكون ترجماناً أميناً لعلاقة حبّ معقّدة بين رجل وامرأة: إذا تباعدا تباكيا، وإذا تلاقيا تقاتلا!