تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لانطلاق ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق الذي تلى انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. تلك الثورة التي توحَّد فيها العراقيون من كل الطوائف والقوميات والتوجهات السياسية والدينية والطبقات الاجتماعية، وطالبوا بإقامة دولة وطنية مستقلة يقودها ملكٌ عربي، وقد تحقق لهم ذلك، إذ جاء الإنجليز بالملك فيصل الأول ونصبوه ملكا على العراق في 23 آب/أوغسطس عام 1921.
وقد حاول المغفور له، فيصل الأول، جاهدا بناءَ دولةٍ حديثة، فشكَّل حكومةً شارك فيها كل المكونات العراقية، بما فيها اليهود، وبشخصياتٍ وطنيةٍ كفوءة، وِفقَ معايير ذلك الزمن، لكنه واجه صعوباتٍ جمةً أعاقت عمله، وكل تلك العقبات مدونة في كتب ومذكرات الذين عاصروه من وزراء ومسؤولين وكتاب ومؤرخين. لكن العراق لم يستقر، وظلت الأحزاب والجماعات السياسية تطالب بإصلاحات، بعضها مشروع وكان يمكن تحقيقُه، والبعض الآخر لم يكن قابلا للتحقيق حينها، ويدخل في نطاق الطموحات، بسبب قصور الإمكانيات المتوفرة.
لقد دفع هذا العجز السياسي، الجيش لتولي السلطة مباشرة، في انقلاب عسكري عام 1958، بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم. لكن قادة الجيش سرعان ما اقتتلوا فيما بينهم على السلطة، وفشلوا جميعا في تأسيس دولة عصرية ذات مؤسسات راسخة قادرة على خدمة المواطنين، وانتهى الأمر بالعراق إلى أن يحكمه فردٌ حسبَ أهوائه وأمزجته المتقلبة، يساعدُه في ذلك أشخاص انتهازيون استغلوا ضعفه ونفذوا مآربه.
توالت الانقلاباتُ والانشقاقات بين الأحزاب والجماعات حتى انتهى الوضع في العراق إلى احتلال جديد قام به الأمريكيون هذه المرة، في لحظة طيش نادرة في التأريخ، لكنهم فشلوا أيضا في تأسيس دولة ترضي الجميع، خصوصا وأنهم أصروا على تسليم السلطة إلى جماعاتٍ سياسية متقوقعة عقائديا في الماضي السحيق، ومنكفئة عائليا على أنفسها، فكلُ فردٍ فيها زعيمٌ أوحدُ، وسليلُ زعيمٍ مقدس، نشأ في كهفٍ لا نوافذَ فيه، فتراءى له أنه كاملُ الأوصاف ومعصومٌ من الخطأ، لا يأيته الباطل بين يديه ولا من خلفه، ولا يحتاج لأن يستشيرَ أحدا، فهو أعلمُ من عليها، وأن كلَ شيء هو شأن عائلي خاص، ولا يحق للآخرين أن يتدخلوا فيه، فوصل الأمر بالعراق إلى أن يصبح دولةً قلقة تهيمن عليها جماعاتٌ مسلحة، وغيرَ قادرة على توفير الغذاء والمأوى والأمن لمواطنيها، ناهيك عن الأشياء "الكمالية" الأخرى كالكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية ودفع رواتب الموظفين!
ولكن، ما الذي جعل الثورةَ ضد الأنظمة المتعاقبة، القبلية والملكية والجمهورية والدينية والطائفية، تستمر وتصبح بديلا عن الدولة المستقرة؟ ولماذا لم تتمكن الدولةُ من أن تقنع أو تنصف أغلب مواطنيها؟ فهناك دوما شريحةٌ من الناس ساخطة وتدعو إلى ثورةٍ جديدة؟ لابد وأن هناك مشكلةً ثقافيةً لم ينتبه إليها الحاكمون خلال مئة سنة من تأسيس العراق، وهذه المشكلة تحتاج إلى حلول ثقافية طويلة الأمد.
هناك اليوم من يريد أن يؤسس لثورة دائمة في العراق، متوهما بأن الثورة شيءٌ إيجابي! أو أن الأمرَ مقصود ويهدف إلى إضعاف العراق وجعلِه دولةً هزيلة ومصدرَ قلقٍ وعدمِ استقرار للمنطقة. وهناك من أسس لما يسمى بـ"المقاومة الإسلامية"! ولا نعرف مقاومةَ من وماذا؟ ويقول هؤلاء "المقاومون" إن العراق بلدٌ محتلّ، فيقصفوا السفارات الأجنبية (المحتلة) بصواريخَ زودتهم بها دولة أخرى ودربتهم على إطلاقِها!
والمعروف أن الاحتلال انتهى رسميا عام 2004 بتولي حكومة أياد علاوي السلطة التي شارك فيها معظمُ القوى السياسية العراقية، وانتهى فعليا بنهاية عام 2011 عندما غادر آخرُ جنديٍ أمريكي أرضَ العراق، بطلبٍ من القوى السياسية العراقية الممثلةِ في البرلمان، الذي تهيمن عليه، سابقا وحاليا، القوى الحالية "المقاوِمة"!
قادة هذه القوى يعرفون الحقيقة، لكنهم يريدون أن يمرروا فكرة الاحتلال على البسطاء، كي يبرروا استمرارَ حملِهم السلاح وارتباطَهم بدولةٍ أخرى، هي إيران. وتعتبِر هذه القوى العراقَ وإيران "دولتين بقائدٍ واحد" هو خامنئي طبعا، وتسمي نفسها "القوى الولائية"! أي الموالية لخامنئي الذي تسميه (السيد الولي) وتعتبره "الممهدَ للمهدي المنتظر"! إن هذه القوى، بهذه الأفكار المتخلفة، هي التي تستفز العراقيين وتجرهم إلى المواجهة المستمرة معها، ما يديم الفوضى والضعف. لكن النصر في هذه المواجهة لابد وأن يكون حليفَ الشعب العراقي الذي يريد أن يعيش كباقي شعوب العالم.
هناك محاولاتٌ متواصلة لجعل العراق بلدا تعمّه الفوضى وعدم الاستقرار تحت مسميات عديدة، دينية وتأريخية ومناطقية وطائفية، لكن الهدفَ الحقيقي هو فسحُ المجال أمام هيمنة إيران على المنطقة. يبدو أن الدولة العراقية الحالية غير قادرة على مواجهة هذه الجماعات التي تغلغلت في كل مؤسسات الدولة، العسكرية والسياسية والاقتصادية. ورغم أن الحكومة الجديدة حاولت أن تفرض القانون وتلقي القبض على العناصر التي تطلق الصواريخ على المؤسسات العراقية، والسفارات الأجنبية، لكنها في النهاية تراجعت أمام قوة هذه الجماعات، وأطلقت سراح المحتجزين تحت ذرائع غير مقنعة.
من هو، يا ترى، صاحبُ المصلحةِ في تأجيجِ هذا الهيجان المستمر في العراق؟ هل هو الشعبُ العراقي المتضرر منه دوما والذي لم ينعم بحياةٍ طبيعية منذ تأسيس الدولة حتى الآن؟ هل هو المجتمعُ الدولي الذي لم يساعد العراق على ترسيخ أسسِ الدولة الحديثة، سواء كانت بريطانيا في مطلع القرن الماضي، أو الولايات المتحدة في مطلع القرن الحالي؟ أم الدولُ الإقليمية المتضررة دائما من عدم الاستقرار في العراق؟ أم الجماعاتُ الفاشلة المتشدقة بالدين التي تجد في التأجيج ضالتَها كي تنسيَ الناسَ قضاياها الحقيقية، وهي استعادةُ البلد من الفاسدين والقتلة والسراق الذين يعملون لصالح دولة لم تعترف يوما بوجود دولة اسمها العراق، بل عملت طوال تأريخِها، وفي ظل كل الأنظمة التي حكمتها، ضد العراق بغض النظر عن نوع الحكم السائد فيه.
كان يجب أن تكون الذكرى المئوية لثورة العشرين، مناسبةً لتعلم الدروس من أخطاء الماضي، ومناسبةً للوحدة الوطنية التي وثّقها الشاعر أبو المحاسن بقصيدة مطلعُها:
وثِقَ العراقُ بزاهرِ استقبالِه والشعبُ متفقٌ على استقلالِه
فالاستقلال كان أهم أهداف ثورة العشرين، لكن الجماعات المسلحة هددت استقلال العراق باستمرار، واستخدمت ذكرى الثورة لتأجيج الطائفية وتفريق العراقيين، وسخّرت قنواتِها الفضائيةَ لهذا الهدف، إذ أتت بأشخاصٍ قدمتهم على أنهم مؤرخون ومثقفون، لكنهم مأجورون، حاولوا إثارةَ الأحقاد وتزويرَ التأريخ وتجييشَ البسطاء وإيهامَهم بوجود أخطارٍ تتهددهم، والهدف هو إلهاءُ الناس عن سرقات هذه الجماعات وجرائمِها وارتباطِها بالأجنبي.
هذه الجماعات تستغل أيَّ حادثة، وأيَّ تعليقٍ في موقعٍ الكتروني، أو صورةٍ في الفيس بوك، أو كاريكتير في جريدة عربية غير مقروءة في العراق، أو برنامجٍ تلفزيوني في فضائية لا يشاهدها أحد، كي تثير النعرات الطائفية وتدعي الانتصار للمذهب والمرجعية الدينية، وتظهر بمظهر المدافع عن الدين والأرض والعِرض، والكل يعلم بأنها مجردة من القيم الأخلاقية والدينية، بل هي التي انتهكت سيادةَ العراق بارتباطها بدولةٍ معاديةٍ له، وعرّضَته للإرهاب والحرب الاهلية بتأجيجِها الأحقاد وإثارتِها الفتن.
مراجعُ الدين مدعوون لأن ينتبهوا إلى ظاهرة التشدق بالدفاع عن المرجعية "واتباع ارشاداتها"، ويمنعوا المشعوذين من استخدام أسماء المراجع المحترمين وعناوينِهم، لأغراضٍ سياسية، وسرقةِ المال العام وتنفيذِ مآرِبَ وخططِ دولةٍ أخرى. سكوتُ المراجع على ادعاءات هؤلاء لا يخدم أحدا سوى هذه الجماعات، التي يعرفها المراجعُ قبل غيرهم، ويعلمون بسوئها، فليس هناك إنجازٌ واحد قدمته هذه الجماعات للناس منذ تسيِّدِها عليهم عبر التزوير والدجل والإرهاب.
الثورةُ في أي بلد هي حالةٌ استثنائية، تنتجُ عن خللٍ في النظام السياسي الذي عجز عن إصلاحِ نفسه، وإرضاءِ الشرائحِ المتذمرةِ منه، أو مارس القمعَ والإرهابَ ضد منتقديه، فاضطرهم إلى التمرد عليه لرفع الظلم عن أنفسهم واسترداد حقوقهم بالقوة. الناس في الظروف الطبيعية يفضلون حياةَ الاستقرار وحلَ المشاكل بالطرق السلمية عبر القضاء أو مؤسساتِ الدولة أو التراضي عبر القنوات المتاحة، أهليةً كانت، دينيةً، قبليةً أم نقابية.
المجتمعاتُ لا تلجأ إلى العنف إلا في حالاتٍ نادرة جدا لذلك، فإن الثوراتِ نادرةٌ في التأريخ الإنساني، وتحصل في فتراتٍ متباعدة. في أمريكا وأوروبا لم تحدث أي ثورة شعبية منذ أكثر من مئتي عام، باستثناء الثورة البلشفية عام 1917، لأن مجتمعاتِها مستقرة، والتطور فيها متواصل.
الدولة الحديثة لديها مؤسسات مهمتُها مراقبةُ الأداء العام للدولة وأجهزتها، وهي تشخص العلل، وتضع الخطط والحلول لها، حتى قبل أن تلاحظَها الناس. الحكامُ في العصر الحديث لديهم مستشارون متخصصون في كل مجال، ولديهم مراكزُ أبحاث تنبئهم بالمشاكل المحتملة وكيفية معالجتِها، ولديهم صحافة حرة تنقل لهم الحقائق، ولا تضللهم، وتضلل معهم الشعب، كما تفعل الصحافة الحزبية والنفعية في العراق. الحكام العقلاء يعرفون بأن العدلَ أساسُ الملك، ومن لا ينصف شعبَه لا يمكنه أن يستمر في حكمِه، فالقوةُ يمكن أن تنجح مؤقتا لكنها تفشلُ على الأمد البعيد.
الدولةُ الحديثة تعتمد على القوانين واللوائح التي تنظم عمل المؤسسات، التي تترسخ بمرور الزمن، فكلما تراكمت التجربة، استقرت المؤسساتُ وازدادت كفاءةً وخبرة، وقدمت خدماتٍ أفضلَ للمواطنين، وزادت من رفاهيتِهم ورضاهم عن أداء الدولة.
لو أن الدولةَ العراقيةَ عملت بجد منذ تأسيسها عام 1921، لكان العراقُ اليوم أفضل من كل دول المنطقة، خصوصا مع تمتّعِه بثرواتٍ طبيعيةٍ هائلة وطاقاتٍ بشريةٍ خلاقة، معظمها الآن مشرد، في الداخل والخارج، أو يعمل في مؤسسات دولية، أو عاطلٌ عن العمل، بينما تزخر المؤسسات العراقية بالمزورين والمخرفين وعديمي الخبرة من أتباع الجماعات المسلحة، التي لا هم لها إلا زعزعة استقرار الدولة وبث الأكاذيب والشائعات وتلفيق الاتهامات وتضليل الناس حول ما يجري في العالم. قنواتُها الفضائية منشغلةٌ طول الوقت في خلق الأكاذيب وتلفيق التهم لمن تعتبرهم خصوما، تفسر الأحداث الدولية حسب الأهواء وبعيدا عن الحقيقة. كما إن هناك جيوشا الكترونية لا هم لها سوى مهاجمةِ أصحاب الرأي الناقد واختلاق الأكاذيب والافتراءات ضدهم، والمحزن أن كل هذا يجري باسم الدين.
الذكرى المئويةُ لثورة العشرين يجب أن تذكّر العراقيين بالفشل المريع في إقامة دولةٍ عصريةٍ قوية ذات مؤسسات اقتصادية وسياسية وقضائية راسخة خلال مئة عام من عمرها. الدولة التي سعى الأجداد لتأسيسها وضحوا من أجلها. يجب أن تذكّرَهم بأن دولا حديثة وصغيرة حققت إنجازاتٍ عظيمةً خلال عقدين أو ثلاثة بعد التأسيس، وأصبحت قوية ومستقرة ومنتجة بفضل حكمة قادتها. إنها مناسبة للتفكُّر والتدبُّر والمحافظة على الاستقلال والانطلاقِ نحو المستقبل، وليست لإثارة الفتن والأحقاد التي سيتضرر منها الجميع، حتى مطلقوها.