وقد لا يُدرك النّاس، دائمًا، أنّها حقوقٌ مدنيّة في المقام الأوّل وليست، جميعُها، حقوقًا طبيعيّة، أو قد يكون الغالبُ على وعيهم إيّاها الخلطُ بين الطبيعيِّ والمدنيِّ أو، قل، المرادفةُ بينهما من غير تمييز؛ وتلك مسألةٌ أخرى.

أكثرُنا يسلّم بأنّ له حقًّا في عملٍ يسُدّ حاجاته المعيشيّة؛ وحقًّا في التّعلُّم وفي تعليم أبنائه؛ وحقًّا في الصحّة والتطبيب، وفي السّكن، والتنقُّل.

وقسمٌ كبير من هذا الأكثر يسلّم بحقّه في المشاركة السّياسيّة في صنع مستقبله ومستقبل أولاده، وحقّه في وسائل المشاركةِ تلك ومنابرِها ومؤسّساتها المطلبيّة. كما يوجد، في جملة هذا القسم، من يسلّم بحقّه في الرّأي والتّعبير بحريّةٍ ومن غير قيودٍ تنال من ذلك الحقّ. كما أنّه ما من معارضةٍ سياسيّة لا تسلّم بحقّها في الاعتراض على سياسات مَن يديرون السّلطة في بلدها.

هكذا تتناسل فكرةُ الحقّ من بعضها فتتولّد منها سلسلةٌ من المطالبات بالحقّ في ميادين الاجتماع المدنيّ والاجتماع السّياسيّ والحياة الثّقافيّة، وفي ميادين العلاقات الأُسْريّة والمهنيّة والعامّة على وجه الإجمال.

ما من أحدٍ، إذن، إلاّ ويسْكُنُه يقينٌ بأنّه يمْلُك حقًّا شخصيًّا أو ذاتيًّا في ما يُنْظَر إليه بوصفه شأنًا في جملة الحقوق. بل هو يسلِّم بمشروعيّة مطالبِه لنفسه بذلك الحقّ.

ومن الطبيعيّ أنّ معنى الحقّ، ومساحتَه وحدودَه تختلف من فردٍ لفردٍ ومن فئةٍ اجتماعيّة لأخرى باختلاف الحاجات ومستوى الوعي ودرجة الاستحقاق. لكنّ مجرّد الوعي بالحقّ يمثّل معطىً إيجابيًّا في الحياة الإنسانيّة، ومبدأً للتقدُّم في الاجتماع الإنسانيّ.

غير أنّ استبداهَ الحقِّ (حسبانه شأنًا بديهيًّا) وشرعنةَ المطالبةِ به والسَّعي في تحصيله، تتوقَّف - جميعُها - على تسليم أَنَا كلِّ واحدٍ منّا بحقٍّ للآخِر نظيرٍ لحقِّ "نا" في المشروعيّة. من دون ذلك، لا معنًى لحقِّ الواحد منّا أو، قل، تَبْطُل المطالبةُ به أخلاقيًّا، لأنّه في جملة ما يدخُل في باب طلبِ إشباع الأنانيِّ في المرء.

لنأخذ مثالاً لحقٍّ يقع الإلحاحُ، كثيرًا، عليه من قِبَل كلّ امرئٍ منّا يعمل في المجال العامّ، وخاصّةً في البيئات الثّقافيّة والفكريّة، ويُتّخَذ – في العادة – معيارًا تُقاس به حالةُ السّواء أو الاعتلال في تلك البيئات؛ هو الحقّ في الرّأي والتعبير؛ أي ذلك الحقّ الذي يُقرأُ التّمتُّع به أو الحرمانُ منه بما هو حيازةٌ للحريّة أو فقدانٌ لها.

ما من أحدٍ من الكتّاب والباحثين، الأدباء والفنّانين، إلاّ وينافح عن حقّه في الرّأي والتّعبير، معارضًا تقييده، مستهجنًا التّضييقَ القانونيَّ وغيرَ القانونيّ عليه. ويصل التّمسّك به، عند كثير من هؤلاء، إلى حدّ نقله من مجال المُطالَبات الخاصّة والعامّة إلى موضوعٍ للإنتاج والكتابة؛ فكريّة كانت أو أدبيّة أو فنّية.

ولكن، إلى أيّ حدٍّ يُبيح أيٌّ منّا، نحن المثقّفين، لغيره ما يُبيحه لنفسه من حقّ؟ إلى أيّ حدٍّ يجد الواحدُ منّا نفسَه في وضْعٍ لا يستكْثر فيه على غيره من حقوق التّفكير والرّأي ما يمنح ذاتَه الحقَّ الكامل فيه؟

سؤالٌ إشكاليّ من غير شكّ، ولكنّه ضروريّ لكلّ عاملٍ في الحقل الثّقافيّ كي يمارس التّمرينَ الضّروريَّ على قيمٍ إنسانيّة غالبًا ما تُداس، في البيئات الثّقافيّة، على نحوٍ غيرِ موعًى به.

وعندي أنّ مَن لم يسلّم بحقّ غيره في ما يتمتّع به – هو – من حقّ ليس له أن يملُك ذلك الحقّ أو، على الأقلّ، ستكون حيازتُهُ حقَّه حيازةً منقوصة بسقوط حقّ غيرٍه فيه.

معادلة صعبة نفسيًّا على كلّ واحدٍ منّا: من غير شكّ، لكنّها تستحقّ منّا وقفةً صادقة معها، ومع النّفس، لتهوية الملوَّثِ من بيئة الفكر والثقافة. مثلاً هل يحتاز امرؤٌ الحقّ في إبداء الرَّأي الذي عنَّ له أن يُبديَه، وأن يعبّر عنه على النّحو الذي يشاء، وأن يحتاز – في الوقتِ عينه – الحقّ في منازعة غيره في إبداء رأيٍ مخالف؟ هل من حقّي أن أفكّر بالطّريقة التي أرتئي أن أفكّر بها، وأستكثر على غيري حقّه في مخالفتي طريقة تفكيري أو حقّه في مخالفتي الرأي في ما أقولُه. ما معيار الحقّ في هذه الحال، إذن، ذاتي أنا وهوايَ أو شيءٌ آخر موضوعيّ يقع في دائرة الحقّ المشتَرَك؟

ما من شكّ في أنّ الغائب الكبير في لعبة التمييز والمُفَاضَلة هذه بين الحقوق، وأَرْجَحَةِ بعضها على بعض، هو فكرة الاعتراف؛ حين لا يتحلّى المرءُ منّا بثقافة الاعتراف، لا يمْلُك – على الحقيقة – أن يسلّم لغيره بما يسلّم به لنفسه من الحقوق، فتكون النّتيجة هي أنّه حين يهتضم حقّ غيره يهتضم حقّه حُكْمًا.