لقد تغير النظام الانتخابي وطريقة حساب الأصوات مرات عديدة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، لكن النتائج بقيت ثابتة تقريبا، إذ (فاز) في الانتخابات المتعاقبة القادة الفاسدون أنفسُهم، الذين يعارضهم الشعب ويحتج عليهم! فهل يُعقل أن الناخبين المتضررين من فسادهم قد صوَّتوا لهم؟ أم أنهم زوّروا إرادة الناخب عبر تشكيل مفوضية انتخابات حزبية تشرف على تقاسم السلطة والمغانم بين الإقطاعيات السياسية–الدينية، مهما كانت النتائج الحقيقية للانتخابات؟

لقد شوَّه هؤلاء الديمقراطية والانتخابات والأنظمة الانتخابية وأنظمة حساب الأصوات المقترنة بها، وأصبح كثيرون في العراق يسخرون من الديمقراطية والانتخابات، وفي عام 2018 عزف معظم الناخبين العراقيين عن التصويت لأنهم أدركوا بأنه سيأتي بالوجوه الفاسدة المحترقة نفسِها. وقد حصل ذلك فعلا، فقد ادعت مفوضية الانتخابات (المستقلة) بأن نسبة الاقبال على التصويت قد تجاوزت 40% من الناخبين، لكن الحقيقة، حسب مراقبين مطلعين وسياسيين وأعضاء في مفوضية الانتخابات، أن الإقبال لم يبلغ حتى 20%.

النظام الانتخابي الذي اختارته الأمم المتحدة عام 2004 كان نظام التمثيل النسبي الذي يكون فيه العراق دائرة انتخابية واحدة، والذي يستخدم نظام القائمة الانتخابية المغلقة ونظام عد الأصوات المعتمد على "العتبة الانتخابية" الذي ينتج عن تقسيم عدد الأصوات المُقترعة على عدد المقاعد البرلمانية. وقد اشترط النظام تمثيلا للمكونات الدينية والقومية، كي لا يخلو البرلمان من ممثلين عن الأقليات.

ولكن، بسبب التأجيج الطائفي الذي مارسته القوى السياسية، التي يهمها الاستيلاء على السلطة وإن كان على حساب التماسك الوطني، وإقحام الدين والمذهب في العملية السياسية، وحداثة التجربة وعدم معرفة الناخبين بالمرشحين، الذين احتموا بالدين والمرجعية الدينية من المساءلة الشعبية، (فازت) الجماعات (الدينية) التي تناست خلافاتها وتكالبت على السلطة. وبعد (فوزها) قامت بتغيير النظام الانتخابي إلى نظام الدوائر المتعددة والقائمة المغلقة، فأصبحت كل محافظة دائرة انتخابية واحدة، لكنه بقي تمثيلا نسبيا ضمن المحافظة، وفي الانتخابات اللاحقة تغير النظام الانتخابي مرة أخرى واعتمد نظام القائمة المفتوحة، التي تمكِّن الناخب أن يصوت للمرشح الذي يريده، ولكن، بسبب كثرة المرشحين والأحزاب، أصبحت استمارة الاقتراع طويلة ومعقدة، بل عسيرة الفهم على الناخبين، خصوصا غير المتعلمين منهم، وكثيرون أخطأوا في تحديد المرشح أو الحزب الذي أرادوا التصويت له، بينما اختير نظام سان ليغو المعدل لحساب الاصوات، لكن الجماعات السياسية عبثت به، ووضعت معادلة جديدة بدلا من المعادلة التي وضعها الرياضي الفرنسي، أندريه سان ليغو، وهي مماثلة لطريقة الرياضي البلجيكي، فيكتور دي هونت، وتأتي بنتائج ممثالة رغم اختلافها في طريقة الحسابات الرياضية. نظام سان ليغو/ديهونت (ويسمى "نظام جفرسون" في الولايات المتحدة، ابتكره الرياضي الأمريكي دانيال وبستر عام 1832 وأُعتمِد في عهد الرئيس جفرسون) يبدأ بالقسمة على 1، بينما يبدأ المعدل بالقسمة على 1.3. أما النظام المعدل عراقيا، فيبدأ بالقسمة على 1.9، والهدف هو إعاقة أي تغيير في العملية السياسية، أي إبقاء هيمنة القوى الحالية على السلطة.

هناك ثلاثة أنظمة انتخابية رئيسية في العالم، مع وجود تنوّعات مختلفة قليلا من دولة لأخرى، ولكن هناك أنظمة عديدة لحساب الأصوات مرتبطة بالأنظمة الانتخابية المختلفة. الأول هو نظام التمثيل النسبي بدائرة انتخابية واحدة، بقائمة مغلقة أو مفتوحة، وهو الأكثر شيوعا عالميا، والثاني هو النظام الفردي ذو الدوائر المتعددة، الذي يسمح بفوز مرشح واحد فقط في الدائرة الانتخابية الواحدة، ويجري بجولة انتخابية واحدة، أو جولتين (كما في بعض الأنظمة الرئاسية)، والثالث هو النظام المختلط الذي يجمع بين النظامين كي يسمح بعدالة أكبر، وهو مستخدم في 20 دولة تقريبا بينها ألمانيا.

نظام التمثيل النسبي، الذي اختارته الأمم المتحدة وأجريت بموجبه الانتخابات العراقية الأولى في 30 يناير 2005، هو الأكثر عدالة حسب آراء المختصين، لأنه يسمح بتغيير الخريطة السياسية حينما يشاء الناخبون، وهو مستخدم، كليا أو جزئيا، في 80 دولة. وتسعى الدول الديمقراطية، التي اعتمدت نظام الدوائر المتعددة، أو ما يسمى بـ"الفائز يأخذ جميع الأصوات" (بينما تذهب الأصوات المعارِضة أدراج الرياح حتى وإن كانت تفوق بمجملها أصوات المرشح الفائز!)، إلى تبني نظام التمثيل النسبي في نظمها الديمقراطية وكثير من الدول بدأ يتبناه، حتى بريطانيا المحافظة أجرت استفتاء عام 2011 لتبني هذا النظام، لكن الحزبين الرئيسيين تكاتفا لمنع تبنيه. أما العراق فيسير في الاتجاه المعاكس لحركة التطور العالمي، إذ بدأ بنظام التمثيل النسبي بدائرة واحدة، ويتجه الآن لاختيار النظام الفردي ذي الدوائر المتعددة الذي يكرس هيمنة الجماعة الأقوى، ويبقيها في السلطة، لأنها لن تسمح بتغيير النظام الذي جاء بها إلى الهيمنة. وفي كل الأحوال، مازالت الجماعات السياسية متحكمة بالمفوضية وإدارة الانتخابات، وتمتلك الأموال والنفوذ والخبرات، فإنها سوف تتلاعب بأي نظام انتخابي وكل طرق حساب الأصوات لصالحها.

إن أراد المحتجون أن يغيروا النظام السياسي فإن عليهم أن يركزوا على إدارة العملية الانتخابية بشفافية، بغض النظر عن النظام الانتخابي، لأن الجماعات السياسية التي زوَّرت الانتخابات سابقا، قد أصبحت أكثر تمرسا في التزوير، ما يمكِّنها من التأثير على إرادة الناخب سواء عبر الدعاية الانتخابية أو التضليل أو تأجيج الطائفية أو حتى تقديم الرشى (المجزية) لتغيير الأصوات لصالح مرشحيها. تشكيل المفوضية الجديدة من القضاة لا يضمن الشفافية والنزاهة، فكم قاضٍ توهم الناس بأنه مستقل واتضح بأنه حزبي، حينما انتقل بسهولة وبسرعة البرق من مقعد القضاء إلى مقعد البرلمان، ممثلا لجماعة دينية مسلحة!

على المحتجين الساعين إلى التغيير الحقيقي أن يعلموا أن الجماعات السياسية الحالية هي التي تخلت عن نظام التمثيل النسبي، الأكثر عدلا وإنصافا للجميع، لأنها تعلم بأنه سيهمشها على الأمد البعيد، لأنه يمكِّن كل ناخب في أي مكان، أن يصوت للجهة التي يؤيدها، وفي ظله لن يكون هناك أي هدر في الأصوات، بل سيحصل الجميع على التمثيل الذي يناسب حجم تأييده الشعبي، ومن هنا جاء الاسم (التمثيل النسبي)، أي المتناسب مع عدد الاصوات. وهو في الوقت نفسه يسمح لممثلي المحافظات والاقضية والنواحي، بالوصول إلى البرلمان إن كانوا يتمتعون بالشعبية اللازمة. قادة الجماعات الحالية سيواصلون اختيار المرشحين، بغض النظر عن نوع النظام الانتخابي أو نظام حساب الأصوات، لكن الناخب هو الذي يقرر من يفوز ومن يخسر. 

لقد قامت القوى المتشدقة بالدين بتغيير النظام الانتخابي مرات عدة، كما غيرت طريقة حساب الأصوات وعدَّلت نظام سان ليغو كي تضمن استمرار هيمنتها على السلطة.

القانون الجديد، الذي صوت عليه البرلمان وركنه في درج اللجنة القانونية، ولم يرسله إلى الرئاسة بسبب استمرار الخلافات حوله، ينص على إجراء الانتخابات في دوائر متعددة، يقدر البعض عددها بـ 240 دائرة في عموم العراق، ويسمح للناخب أن يصوت لمرشح واحد فقط في كل دائرة انتخابية. وبغض النظر عن سلبيات هذا النظام، الذي غادرته دول العالم الأخرى، لأنه يديم هيمنة الأحزاب الممسكة بالسلطة ويهمِّش الأحزاب الناشئة ويعيق التغيير، وهذا بالتأكيد لا ينفع العراق المتنوع ثقافيا وقوميا ودينيا وسياسيا، فإن مسألة تحديد الدوائر الانتخابية هي مسألة مثيرة للجدل حتى في الدول الديمقراطية العريقة مثل بريطانيا، لأنها عملية متحركة بسبب انتقال السكان حسب ظروف الحياة والعمل، لذلك يجب أن تكون هناك هيئة ثابتة لمراقبة حركة السكان في الدوائر الانتخابية المختلفة.

تحديد الدوائر الانتخابية يحتاج إلى معلومات دقيقة عن عدد السكان وقومياتهم في بعض المناطق المختلطة مثل كركوك وديالى والموصل، وهذه المعلومات غير متوفرة حاليا، فلا يوجد إحصاء حديث يحدد عدد السكان ويوثق المعلومات. إنشاء دوائر انتخابية تمثل الناس تمثيلا منصفا يحتاج وقتا أطول وربما توافقا سياسيا، أو قضاء مستقلا قادرا على حسم الخلافات، وقد يثير خلافات لها أول وليس لها آخر، بين الجماعات السياسية العراقية المتناحرة أصلا، خصوصا مع وجود مناطق متداخلة قوميا ودينيا، ما يعني أن التمثيل سيكون لشريحة معينة على حساب شرائح أخرى. الدستور العراقي ينص على تمثيل النساء بنسبة 25 بالمئة من المقاعد البرلمانية، والإيفاء بهذا الشرط الدستوري سيكون صعبا في الدوائر المتعددة، بل سيحتاج إلى تصميم نظام اقتراع خاص يضمن تمثيل النساء.

النظام الانتخابي المقترح سوف يلحق بالعملية السياسية ضررا كبيرا، ولا أدري كيف اقتنع المحتجون بأن هذا النظام أفضل من الأنظمة الأخرى، وهو الذي يلغي، بل يجتث، كل الأحزاب الصغيرة ويقمع التوجهات الجديدة في المجتمع، ويعزز التوجهات السائدة التي ستصبح أكثر قوة وسطوة. لقد فرحت قوى محددة بتبني هذا النظام لأنه سيمكنها من الهيمنة على الآخرين، وإن تمكن فريق من الهيمنة، فإنه سوف يتمسك بهيمنته إلى ما لا نهاية، ليس عبر الانتخاب، بل عبر طرق أخرى اعتدنا عليها، كالتزوير والإرهاب.

المحتجون بحاجة إلى التريكز على تنظيم أنفسهم وتأسيس حزب ديمقراطي جديد يمثلهم، وابتكار طرق جديدة لمكافحة الفساد والتزوير في الانتخابات، فهنا تكمن المشكلة حقا، وبذلك سيخدمون أنفسهم والعراق ككل، ويساهمون في تعديل مسار العملية السياسية. يجب ألا يسمحوا للقوى المتشددة بالسيطرة على الدولة والمجتمع، لأنها قوى غير ديمقراطية، وستبقى تمارس الفساد والإرهاب لتحقيق مآربها غير المشروعة.