القارئ المدقق في التاريخ يدرك أن كلا من الشام ومصر صنوان لأمن المنطقة وسلامها.
حقيقة أدركها ملوك المصريين القدماء العظام أمثال أحمس الأول وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني، وورثها بعدهم ملوك البطالمة، ثم أحياها حكام وقادة العرب الذين سعوا لإحياء هذا الارتباط منذ عهود أحمد بن طولون ثم الأخشيديين فالفاطميين، وأخيرا نجح الأيوبيون وورثتهم المماليك في تحقيق هذا الارتباط بجمع مصراعا باب الشرق في مملكة واحدة تضم "الديار المصرية"، ومركزها القاهرة و"الديار الشامية" ومركزها دمشق، لهذا كان من الطبيعي أن يضع محمد علي عيناه على الشام.
فمن ناحية كان يدرك أن العثمانلي يتربص الفرص للإطاحة به، فكان يريد أن يحوز درعا تقيه ضربة غادرة من إسطنبول،
ومن ناحية ثانية كان يحتاج إلى ثروات الشام خاصة الأخشاب لبناء أسطول قوي، وإلى طاقاتها البشرية لتزويد جيشه بالجند الأشداء، ومن ناحية أخرى كان يطمح إلى إقامة إمبراطورية عربية يكون فيها سيد مصر والشام والحجاز والسودان.
الشام تحت حكم بني عثمان:
في العصر المملوكي كان الشام موحدا تحت إمرة "نائب الشام" الذي يحكمه من دمشق نائبا عن السلطان بالقاهرة. كان المجتمع متشكلا من عرقيات وثقافات وقبائل وعشائر وعقائد متنوعة، ولكنه كان يحظى بالأمان والاستقرار، وكانت تجريدة موجهة من القاهرة أو دمشق أو حلب كفيلة بالضرب على يد العابثين بذلك الاستقرار.
انتهى ذلك الوضع منذ بداية الاحتلال العثماني، فقد حرص العثمانيون على تمزيق وحدة بلاد الشام في باشويات ومناطق نفوذ قبلية وعشائرية.. ووضعوا في المدن الكبرى ولاة عثمانيون مهمتهم العلنية هي إدارة البلاد وتأمين الأهالي وجباية الأموال، إضافة لمهمة سرية هي إبقاء نار الفتنة مشتعلة بين الفئات السكانية المختلفة.. هكذا أُنتِجَت عبر قرون الاحتلال الحساسيات والعصبيات بين العشائر والعقائد والطوائف والذي ما زال فارضًا نفسه حتى الآن.. حتى أن صراع القيسية (أهل الحجاز العدنانيون) واليمنية (أهل اليمن القحطانيون) والذي لم يعد يُسمع به منذ العصر العباسي عاد ليشتعل في لبنان.. وزعماء العشائر من سُنة وشيعة ودروز ومسيحيين راحوا يشكلون جيوشًا ويغيرون على بعضهم بعضا. وكبار البيوتات الشامية راحت تتصارع على السيادة والسطوة. والمسيحيون تعرضوا للاضطهاد والإساءات بسبب حروب الدولة العثمانية في اليونان وضد روسيا، وكأنما العقيدة الدينية المشتركة هي مبرر ل"معاقبتهم" جماعيًا، فراح بعضهم يلتمس الحماية من فرنسا وروسيا.. كل هذا وباشوات العثمانلي يراقبون الصراعات في رضا ويعينون طرفًا على الآخر حتى إذا ما قُضِيَ على الضعيف وأنُهِكَ القوي مالوا عليه وضربوه بمنطق "فرق تسد".
واشتعلت الحروب والثورات والفتن في مختلف بلاد الشام فجرد العثمانلي قوته الباطشة لقمع كل من يعلو صوته ضده أو حتى تعلو قامته بشكل مريب ينذر بعصيانه مستقبلًا.. فراحت المدافع العثمانية تضرب الثورات والتمردات في القدس وطبرية وعكا وغيرها. فكان من الطبيعي أن ينظر أهل الشام لجيش مصر باعتباره المنقذ من هذا الجحيم!
-مدن الشام تستقبل الجيش المصري:
كان أهل فلسطين أول من رحبوا بالجيش المصري عندما طرق أبواب الشام في العام 1831م، ففتحت المدن أبوابها بالتهليل والابتهاج وعلى رأسها كلا من غزة وحيفا.. وبينما كان جيش مصر يحاصر الطاغية عبد الله باشا في عكا كانت قوات منه تضم مدن صيدا وصور وطرابلس وبيروت.
وارتاع العثمانيون وهم يرون مصر التي كانت قبيل الأمس مجرد ولاية تلعب دور البقرة الحلوب، يخرج منها جيشًا قويًا يهين القوة العثمانية في الشام.. فراسلوا محمد علي وحاولوا إقناعه الانسحاب، وإثر فشلهم في ذلك أصدروا فتوى بخيانته هو وابنه إبراهيم باشا وأصدر السلطان فرمانا بعزلهما.
وأرسل العثمانيون جيشا بقيادة والي حلب الذي سارع إبراهيم باشا لملاقاته قرب حمص وأوقع به هزيمة ثقيلة، ثم فتح عكا وضمها وأسر عبد الله باشا وبعثه إلى مصر.
وسرعان ما لحقت دمشق بالمدن المحررة من الاحتلال العثماني، واستقبل أهلها إبراهيم باشا بالابتهاج لرغبتهم التخلص من حكم طغاة العثمانيين الذين جن جنونهم وأرسلوا جيشًا بقيادة سر عسكر حسين باشا الذي لاقى مصير سابقه من الهزيمة والإهانة عند مدينة حمص، وليتقدم إبراهيم باشا بعدها فيضم حلب وحماة، ثم يتوغل في ممرات الأناضول مطاردًا حسين باشا المهزوم، ويستولي على الإسكندرونة وميناء إياس وولايتا أضنة وطرسوس.
سارع السلطان العثماني محمود الثاني لبعث جيش آخر بقيادة رشيد باشا-الصدر الأعظم كبير الوزراء-فسار إبراهيم باشا بقواته ولاقاه عند سهول مدينة قونية، حيث تعرض الجيش العثماني لنفس خيبات سابقيه فتلقى هزيمة مهينة انتهت بأسر رشيد باشا شخصيا.
وتقدم إبراهيم باشا من مدينة كوتاهية التركية، وقد انتوى أن يستمر في الزحف حتى يدخل بجيشه اسطنبول نفسها.. ولكن أباه أرسل إليه أن إبق مكانك حتى نرى ما تتمخض عنه الأحداث.
الانبطاح العثماني
كابوس مفزع أقض مضاجع العثمانلي المتغطرس الذي كان يتعامل باعتبار أنه سيد الدنيا فاستيقظ على جيش قوامه "الفلاحين الخير سيز نار سيز أدب سيز" الذين كان في الأمس القريب يذلهم بسوطه وعصاه، وقد وطأت أقدامهم بلاده وكشفوا باستبسالهم في القتال رخاوة جنده وغباء قادته وهددوا عاصمته ذاتها.
هنا خلع العثماني قناع الأسد كاشفًا عن أخلاق الجرذ، وسارع بالاستغاثة بالدول الكبرى التي كان يروج أنه هو من يحمي المسلمين منها وأن ملوك تلك الدول يرتعدون من مجرد رؤية البيارق العثمانية.
عرض السلطان محمود الثاني على بريطانيا التحالف ضد محمد علي وأرسل سفيره في فيينا إلى لندن يطلب مددًا بحريًا بريطانيا يتولى هو دفع نفقاته!
ورفض البريطانيون الطلب بسبب انشغالهم بمسائل داخلية وخارجية رأوا أنها أهم. وبدا من الفرنسيون تشجيعًا لمحمد علي-صديقهم-أن يستمر في سياسته التوسعية. والنمسا وبروسيا(في ألمانيا) لزمتا الحياد والترقب.
أما الروس فقد ارتاعوا وهم يرون قوة ناشئة تتقدم بشكل ينذر بسيطرتها على المضايق، وإقامة دولة قوية فيها تحول دون توغل روسيا في تلك المنطقة، وكان الروس يفضلون خضوع تلك المضايق للعثمانيون الضعفاء الذي يسهل انتزاعها منهم على خضوعها للدولة المصرية التي بدا أنها قوة لا يستهان بها!.
فعرضت روسيا على العثمانيين إرسال مساعدة عسكرية، وتردد السلطان في البداية ثم سرعان ما أدرك دقة موقفه فقرر الحفاظ على عرشه وسيطرته ولو بالخيانة، فطلب من الروس-أعداء الأمس القريب بل واليوم-إرسال قوات برية تحمي إسطنبول وقوات بحرية تحمي البوسفور.. وتهلل الروس لموافقة محمود الثاني فنزل 14000 جندي روسي عند البوسفور، وأمام سراي السلطان حامي الإسلام والمسلمين المزعوم، رسا أسطول روسي لحمايته!
تبريد الجبهة.. هدنة مؤقتة
بينما كان الروس يتهللون فرحًا بذلك الفوز السهل والإذلال المهين للعثمانيين، كانت عواصم فرنسا وإنجلترا والنمسا ترتعد لتلك المفاجأة.. فالسماح العثماني للروس بالتواجد في المضايق كان كارثة لتلك الدول التي كانت ترغب في تأخير إعلان وفاة رجل أوروبا العثماني المريض لحين الوصول لتسويات لتقاسم تركته، بينما كان التحرك الروسي ينذر بانفراد الدُب الجليدي بالمضايق التي تعتبر هي درة تلك التركة.
فسارع الفرنسيون بالتدخل بالمراسلات بين القاهرة وإسطنبول، ومحاولة إقناع كل طرف بتقديم بعض التنازلات وإبداء المرونة..
وأخيرًا نجحت فرنسا في إقناع الطرفين بتسوية تنص على أن يتوقف القتال على أن ينسحب جيش مصر من الأناضول لما وراء جبال طوروس، وأن تكون لمحمد علي باشا ولاية مصر مدى الحياة، وأن يعيّن واليًا على عكا ودمشق وطرابلس وحلب (وملحقات تلك الولايات..أي عمليًا على الشام كله) وكذلك على جزيرة كريت، وأن يتم تعيين ابنه إبراهيم باشا واليًا على أضنة التركية.
وهكذا تم توقيع "معاهدة كوتاهية" في أغسطس 1833م لتتوقف الحرب وليمسح الجانب المصري عرق الجهد المبذول في النصر، والجانب العثماني عرق الخجل والخيبة.
ولكن الغول العثماني المتغطرس كان يكتم تحت صمته غضبًا وشعورًا بالإهانة قرر إثرهما أن ينتقم لكرامته المسفوحة ولو كان ثمن ذلك التورط في مزيد من الخيانات وتدمير البيت الذي طالما ادعى أنه حاميه وحارسه!