على الرغم من أن دول العالم أجمع تواجه الآن مخاطر جائحة كورونا، وما نتج عنها من تراجع اقتصادي وخدمي وتدهور صحي، إلا أن العراق يواجه أزمات خطيرة أخرى، سياسية وأمنية ومالية، تضاف إلى الأزمات التي تواجهها الدول الأخرى.
ولا يُتوقع أن يخرج العراق من هذه الأزمات، إلا حينما يقدّم سياسيوه تنازلاتٍ استثنائيةً عما يعتقدونه حقوقا لهم، مقدِمينَ مصالحَ البلد على مصالحهم، لكن مثل هذا الاستعداد للتنازل والاعتراف بالفشل غائب حاليا، أما بسبب عدم إدراكِهم المخاطرَ المحدقةَ بالبلد، وهذا محتمل، فمعظمهم يفتقر إلى الحنكة السياسية والخبرة الإدارية، أو حتى المؤهلاتِ الأكاديمية، أو بسبب تبعيتِهم المطلقة لدول أخرى، بحث أنهم لا يستطيعون أن يتخذوا القرارَ المناسب رغم وضوحِ المشاكل والحلول.
جائحة كورونا أوقفت معظم النشاطات الاقتصادية، وكبلت البلد بأعباء مالية جديدة وأضرت بالفقراء الذين يشكلون أكثر من ثلث الشعب، خصوصا أولئك الذين يعملون بأجور يومية، بينما ساهم انخفاضُ أسعار النفط إلى ما دون العشرين دولارا، في خفض إيرادات العراق إلى الثلث، ساهم تخفيضُ انتاج النفط بمليون برميل يوميا، حسب اتفاق أوبك الأخير، بتقليص حجم الصادرات بأكثر من الربع. وكل هذا كان سيهون، لو كان البلد متماسكا والدولة قوية، والقانون يُطبَّق على الجميع، إذ يمكن الخبراءَ في المؤسسات العراقية أن يجترحوا حلولا داخلية، كتخفيضِ الرواتب والنفقات وزيادةِ الضرائب على ذوي الدخل المرتفع، وزيادة إيرادات الدولة من بعض القطاعات، أو حلولا خارجية، كالاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين، أو تأجيل دفع الديون الخارجية بهدف التغلب على الأزمة.
لكن الجماعات المسلحة التي تدعمها إيران قد جعلت التعاونَ مع دول العالم الأخرى مستحيلا لأنها بدأت تهاجم مقرات الجيش العراقي التي يستضيف فيها قواتٍ أجنبية، وتطلق الصواريخ على مقار البعثات الدبلوماسية الأجنبية، خصوصا سفارة الولايات المتحدة، وهي أهم بلد يشترك مع العراق باتفاقيات أمنية واقتصادية واستراتيجية عديدة، وتقتل المحتجين وأصحاب الرأي الناقد والصحفيين الأحرار وتختطفهم، بينما الحكومة تتفرج دون أن تفعل شيئا، هذا إن احسنّا الظن، وقد تكون متواطئة معها، وهذا هو المرجح.
مازال العراق يعتمد على إيران في الحصول على ما يقارب ربع احتياجاتِه من الكهرباء، وبالرغم من أن الولايات المتحدة فرضت عقوباتٍ صارمةً على إيران، اعتبارا من أيار 2018، ثم شملت هذه العقوبات الدول التي تتعامل مع إيران في نوفمر 2018. وقد أمهلت الدول التي تتعامل تجاريا مع إيران مُهَلا محددة كي تتوقف عن التعامل معها، ظل العراق يستورد الكهرباء والمواد الغذائية والفواكه والخضروات، وحتى مواد البناء، كالطوب والإسمنت، التي كان العراق يصدِّرها للدول المجاورة في السبعينيات.
أمهلت الولايات المتحدة العراق 4 أشهر ثم 3 أشهر ثم شهرا ونصف ثم شهرا ثم شهرا آخر، لكن الحكومة العراقية لم تسعَ لأن تجد بديلا لسد حاجتها من الكهرباء والمواد الضرورية الأخرى، بل ولم تضع خططا لكيفية سد حاجات البلد من مصادر أخرى، فبقي العراق يستورد الكهرباء والمواد الغذائية غير الضرورية من إيران، في محاولة، كما يرى مراقبون وعراقيون كثيرون، لمساعدة إيران على الصمود في وجه العقوبات الأمريكية الصارمة.
وزير الكهرباء السابق، قاسم الفهداوي، قال إن العراق حصل على عروض مغرية من دول الخليج العربي لتوريد الكهرباء إليه بأسعار أقل بكثير من الأسعار الإيرانية، لكن إيران حسب الوزير، مارست ضغوطا على الحكومة العراقية كي يستمر استيراد الكهرباء منها.
كما أعلن وزير الزراعة العراقي، صالح الحسني، مؤخرا، أن العراق يستورد موادا غذائية غير ضرورية (مثل الفجل والبصل والنَّبق) بملايين الدولارات علما أنها تُنتج محليا! كما قال الوزير إن هناك حرائقَ "موجهة" للمحاصيل الزراعية وهناك نفوق للأسماك في البحيرات والدواجن في الحقول، وهذه الأفعال "موجهة" والهدف هو "إبقاء العراق سوقا للبضائع المستوردة من دول الجوار"! وليس هناك أحد في العراق يجهل من هي الدولة المقصودة، التي تصدِّر الفجل والبصل والنبق إلى العراق، إضافة إلى الكهرباء.
لا مشكلة في استيراد الاحتياجات الضرورية من الخارج، ولكن يجب ألا يتعرض العراق للعقوبات الدولية بسبب ذلك، والمعروف أن العقوبات الدولية إن فُرِضت على بلد فسوف تصعب إزالتُها لاحقا. أما أن تُرتكب أعمال تخريب بهدف إجبار العراق على استيراد المواد التي ينتجها محليا من الخارج، فهذا ما لم تُقدِم عليه أي دولة حتى الآن. الاقتصاد الإيراني يعاني بسبب العقوبات الأمريكية التي جلبتها سياسات النظام التوسعية الطائشة، وعلى إيران وحدها أن تتحمل نتائج سياسات نظامها، ولا تحاول تحميل الدول الأخرى تبعات سياساتها.
إن رضوخ الحكومة العراقية المستمر للضغوط الإيرانية، وتبعيتها لسياسات النظام الإيراني المنبوذ عالميا، سوف يضعان البلد في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي فرضت العقوبات على إيران، وكذلك مع الدول الاقليمية المتضررة من السياسات الإيرانية المتعمدة، بالإضافة إلى أنهما يجلبان سخط الشعب العراقي، كما رأينا في الاحتجاجات التي استمرت ستة أشهر، ولم تتوقف إلا بسبب جائحة كورونا.
لكن هذا الضعف العراقي أمام إيران سببه وجود قوى عراقية مسلحة تابعة للنظام الإيراني وهذه القوى تمارس القتل والخطف والإرهاب على كل من يعارض سياسة إيران في العراق. لذلك فإن من العبث حقا أن يأمل العراقيون، أو المجتمع الدولي، في قيام دولة عراقية مستقلة وذات سيادة، إن لم يُعالَج أصلُ المشكلة وهو وجودُ جماعات مسلحة في العراق تعمل لصالح النظام الإيراني، وهذه الجماعات التي تسمي نفسها سياسية، وهي في الحقيقة إرهابية، تقتل وتخطف وتبتز الناس، وتتسبب في تخريب علاقات العراق مع الدول الأخرى وتساهم في شكل مباشر، في تدهور الاقتصاد العراقي وزعزعة الأمن وقمع الحريات وإضعاف المؤسسات العراقية، وفي مقدمتها القضاء ووسائل الإعلام.
مر علينا في الثالث من أيار الجاري عيدُ حرية الصحافة العالمي، وهو مناسبة للمراجعة، وعندما نتفحص وضع العراق في مجال حرية الصحافة نجده بائسا، إذ وضَعَه مؤشر الحريات الصحفية في المرتبة 162 عالميا.
لقد قُتِل وخُطِف مئات الصحفيين حتى الآن، بمن فيهم صحفيون يعملون في وسائل إعلام حكومية، مثل الكاتب والناشر مازن لطيف، الذي يعمل في مجلس أمناء شبكة الإعلام العراقي، وقد خطفته جماعة مسلحة قبل ثلاثة أشهر، والصحفي والمؤرخ المعروف توفيق التميمي، الذي يعمل مسؤولا في جريدة الصباح الرسمية، والذي خُطف قبل شهرين بعد أن طالب عبر فيسبوك، بإطلاق سراح زميله المخطوف، مازن لطيف.
الساحة الإعلامية العراقية تزخر بالقنوات الفضائية والصحف والمجلات والمواقع الألكترونية التي أصبحت لا تعد ولا تحصى، لكنها لا تتمتع بالحرية المطلوبة لتأدية دورها، فمعظمها وسائل حزبية وطائفية ودينية منحازة، والصحفي فيها خائف ومتردد في نقل الحقيقة، لأنه دائما عرضة للقتل والخطف والتهديد، أو الطرد من العمل في أحسن الأحوال، كما أنه لا يحصل على المعلومات الصحيحة التي يحتاجُها من الوزارات والمؤسسات الرسمية، وإن هو حصل على معلومات عن الفساد أو الجريمة المنظمة عبر التحقيق الصحفي، وكشف عنها، فإنه سيتعرض إلى الخطف أو القتل أو يضطر لنفي المعلومة إن أمكن.
يجري حاليا تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، لكن هذه الجهود تتعثر، وكثيرون من قادة الكتل السياسية الذين أعلنوا سابقا تأييدهم للمكلّف بتشكيل الحكومة، مصطفى الكاظمي، تخلوا عنه الآن، حتى من كان متحمسا له سابقا، مثل إئتلاف الوطنية بزعامة أياد علاوي، والسبب هو لأنهم غير راضين عن حصصهم في الحكومة. كل الكتل السياسية تعلن أنها تخلت عن شروطها من أجل مصلحة البلد، لكن الحقيقة أنها متمسكة بكل ما لديها من مكاسب وغير مستعدة لأن تخسر أيا من مواقعها.
ومع كل المشاكل التي يعانيها البلد والأخطار المحدقة به، مازالت هذه القوى تصر على تقاسم السلطة والنفوذ. من الواضح أن أياما قاتمة تنتظر العراق، صحيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا واجتماعيا، خصوصا مع عدم تمكُّن السياسيين من تقديم الحلول الناجعة، أو عدم استعدادهم لذلك.
لكن صبر العراقيين على الطبقة السياسية قد نفد منذ الأول من أكتوبر/تشرين الثاني عام 2019، وأن ما يؤجل الانفجار الشعبي العارم الآن هو جائحة كورونا، وعندما تنتهي الأزمة، لن يقف بوجه العراقيين الغاضبين، لا سلاح المليشيات ولا وعود وألاعيب وخُدَع السياسيين المتمرسين.
وسوف يلتحق بالمحتجين السابقين كل الفقراء الذين قاسوا ضنك العيش خلال أزمة الجائحة. لم يخشَ شبابُ العراق الشجعان رصاصَ الملثمين (من الطرف الثالث!)، فقدموا مالا يقل عن 700 شهيد و25 الف جريح ومُعاق في طريق الحرية والكرامة. لو كان هناك حكماء بين سياسيي العراق المتنفذين، لاستثمروا هذه الفرصة، وأصلحوا النظام السياسي، واستجابوا لمطالب المتظاهرين قبل فوات الأوان، كي لا يكون هناك سبب لعدم الاستقرار في البلد بعد إنجلاء جائحة كورونا وآثارها الاقتصادية.