وحقوق الإنسان، كما حددها الإعلان العالمي، بمواده الثلاثين، تتلخص في حق بني البشر جميعا، ودون تمييز، في الحرية والحياة والأمن والغذاء والمأوى والتملك والتعليم والصحة والمعتقد وتقرير المصير. ويمكن تصنيف حقوق الإنسان إلى خمسة أصناف رئيسية، ليست حسب الأهمية، فكل الحقوق مهمة وإن تقدم بعضها على البعص الآخر، ولكن حسب إمكانية الحصول عليها. فهناك الحقوق المدنية (الحياة والأمن والحرية) والحقوق السياسية (الحماية القانونية والمساواة أمام القانون)، والحقوق الاقتصادية (العمل والتملك وتقاضي أجور متساوية مع الأقران)، والحقوق الاجتماعية (التعليم والزواج) والحقوق الثقافية (المشاركة في النشاطات الثقافية المتعلقة بثقافة الفرد والجماعة) والحقوق الجماعية (تقرير المصير).

ورغم الكلام الكثير عن حقوق الإنسان والمواثيق والاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، لكن الحقيقة أن بني البشر لم يحصلوا على كل هذه الحقوق دائما، حتى في الدول المتقدمة، لأن بعضها قد يصعب تحقيقه أحيانا، كالحقوق الاقتصادية والسياسية، والبعض الآخر يحجبه الأقوياء، تعسفا، عن الضعفاء.

لكن ما يجب على الجميع الإقرار به الآن، خصوصا بعد جائحة كورونا، هو بالتأكيد حق الإنسان في الحياة، الذي يتضمن حقه في الوقاية من الأوبئة والأمراض والعلاج منها، فليس من العدل بشيء أن يموت الناس بسبب تجارب عبثية يجريها علماء في بعض البلدان دون اكتراث للنتائج التي يمكن أن تتركها على حياة الناس الآخرين في بلدان أخرى. وليس من العدل أيضا أن تجرى تجارب باستخدام مواد كيميائية أو ذرية يكون ضررها عاما بل قد يمتد لعدة أجيال.

الآن أصبح واضحا أن الصحة يجب أن تتقدم على كل الحقوق الأخرى لأنها مرتبطة بحق الحياة الأساسي، أو على الأقل جودة الحياة، فالإنسان العليل لا يحيى حياة كاملة وسعيدة كالإنسان السليم. لذلك أصبح ضروريا أن يشارك بنو البشر جميعا من كل الثقافات والأعراق والقارات في صياغة إعلان عالمي ملزم لكل الدول، في العمل وفق شروط صحية صارمة تمنع الإصابة الجماعية للناس في بلدان العالم الأخرى بالأمراض والأوبئة. والصحة مرتبطة هي الأخرى بحقوق الإنسان الأخرى. مر الآن 72 عاما تقريبا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد تغير العالم كثيرا منذ ذلك الحين بسبب العولمة والتقدم التكنلوجي والتقدم المذهل في الاتصالات وانتشار المعلومات ووسائل النقل وطرق الإنتاج والاستهلاك والسكن، لذلك أصبح لزاما على البشرية أن تهتم بقضايا لم تكن مطروحة قبل سبعين عاما.

في السابق كان هناك ما يسمى بالاكتفاء الذاتي، الذي كانت دول العالم تسعى إلى تحقيقه، أما الآن فلم يعد هذا المبدأ قائما أو ضروريا، إذ أصبحت بلدان العالم تعتمد على بعضها، وليس صحيحا، بل ليس ممكنا، من الناحية الاقتصادية، أن يكتفي أي بلد من البلدان ذاتيا، فالجدوى الاقتصادية لإنتاج سلعة أو إنشاء مشروع تتفاوت من بلد لآخر فيمكن إنتاج محصول معين أو سلعة معينة بكلفة أقل كثيرا في بلدان محددة من بلدان أخرى.

كلفة استخراج النفط العربي مثلا أقل من البلدان الأخرى، وهذا يجعله مفضلا ومطلوبا دائما، بل إن انخفاض كلفة إنتاجه يجعل من غير المجدي اقتصاديا أن تنتجه بلدان أخرى محليا. وبينما يباع النفط العربي بسعر دون الأربعين دولارا، وأحيانا دون الثلاثين دولارا، ويبقى مربحا، فإن كلفة انتاج النفط الأمريكي تقترب من الخمسين دولارا. كلفة انتاج الرز في تايلاند وفيتنام والولايات المتحدة، والقمح في روسيا وأوكرانيا وأستراليا، أقل بكثير من انتاجها في البلدان الأوروبية والعربية والأفريقية على سبيل المثال، لذلك أصبح لزاما على البلدان المختلفة أن تتخصص في إنتاج البضائع والسلع والمحاصيل الأقل كلفة، وهذا ما وفرته التجارة العالمية الآخذة في الازدهار، والتي وفرت الكثير من الجهد والمال، ومكنت الكثير من البلدان من تحسين وزيادة انتاجها وتحقيق ثروات طائلة عبر التنافس في الأسعار.

التكامل والتقارب العالمي يفرض شروطا وظروفا جديدة، فإن كانت فيهما فوائد، وهي كثيرة، فإن هناك مخاطر أيضا، وهذه المخاطر تتعلق بالصحة أولا، وتعثر انتاج الإمدادات الضرورية للحياة ثانيا، وفي كلتا الحالتين أصبح ضروريا أن تلتزم بلدان العالم بشكل أكبر بحقوق الإنسان، خصوصا المتعلقة بالصحة وظروف العمل والأجور. فيما يتعلق بالصحة، لابد من تمكين منظمة الصحة العالمية كي تؤدي مَهَمَّة حماية البشرية من الأمراض والأوبئة ومنحها الإمكانيات التي تحتاجها والسلطات التي تمكِّنها من فرض الشروط الصحية وتطبيق المعايير الدولية للصحة والبيئة لضمان بقاء الحياة على كوكب الأرض.
أما بخصوص استمرار الإمدادات الضرورية للحياة فيجب أن تكون هناك هيئة دولية أخرى تراقب الإنتاج العالمي للمواد الضرورية وتتأكد من أن العمال والمتخصصين في مختلف أنحاء العالم يعملون في ظروف مواتية ويحصلون على حقوقهم كاملةً، خصوصا ما يتعلق بالسلامة والأمن والصحة والبيئة والأجور.

في الرابع والعشرين من أبريل من عام 2013 حدثت كارثة عالمية لم تحظَ بتغطية إعلامية واسعة وربما نسيها العالم بعد حدوثها بوقت قصير، ألا وهي مقتل 1100 عامل في معمل للنسيج في بنغلادش إثر انهيار مبنى (رانا بلازا) على رؤوسهم. هؤلاء العمال الفقراء ماتوا بسبب إهمال مالكي المصنع وعدم التزامهم بشروط الصيانة ونسبة الاكتظاظ المسموح بها في المصانع.

هناك فساد واضح وراء وقوع هذه الكارثة الإنسانية، بل إن شبح الفساد ما زال يخيم على أسباب اندلاع جائحة كورونا إذ يعزو علماء إلى أن الفساد المتحكم بالتجارة في الأحياء البرية وأسواق بيع اللحوم والمواد الغذائية هو سبب نشوء فيروس كوفيد 19 في أحد أسواق مدينة ووهان في الصين.

وبالإضافة إلى الكارثة الإنسانية التي حلت بالعمال البنغاليين وعائلاتهم، التي فقدت فجأة معيليها في دولة فقيرة تخلو من نظام محكم للضمان الاجتماعي، فإن هناك أمرا آخر ربما كان مهما لو كان المعمل ينتج مادة أخرى ضرورية كالأدوية أو الغذاء النادر أو الأجهزة الطبية أو باقي ضروريات الحياة، أو المواد الداخلة في صناعة المواد الضرورية. مثل هذه الكارثة أوقفت المعمل لسنوات عديدة وقضت على المتخصصين في صناعة المواد التي ينتجها. لذلك أصبح ضروريا أن تكون هناك ضوابط عالمية للإنتاج وحقوق العمال، وأن تطبق هذه الضوابط ليس فقط في الدول المتقدمة بل في سلسلة الإمدادات المنتشرة في دول العالم المختلفة، فقد رأينا كيف أن الإهمال والفساد في أسواق اللحوم في الصين قد تسببا في اندلاع وباء كوفيد 19.

الكثير من أسواق ومصانع انتاج الأغذية لا تتوفر فيها لا الشروط الصحية المطلوبة ولا الحقوق الأساسية للعاملين، على الرغم من وجود معايير دولية كثيرة في كل مجالات الحياة، ولكن الخلل يكمن في التساهل في تطبيقها، وهذا ما كشفت عنه العديد من الدراسات والتقارير الموثقة بالصور والفيديوهات، علما أن الكثير من المصانع المخالفة للشروط الصحية ومعايير السلامة وحقوق الإنسان في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لا تسمح لوسائل الإعلام أو هيئات الرقابة بالدخول إليها كي لا يفتضح أمرها. هناك مستفيدون من هذه المخالفات والتجاوزات وهؤلاء يجب أن يحاسَبوا ويراقَبوا من أجل الصالح العام.

أصبح واضحا الآن أن التساهل في قضايا الفساد في الكثير من الدول هو المسؤول الأول عن الكوارث العالمية، سواء كانت صحية أم بيئية أم اقتصادية أم إنسانية. والفساد هو في الحقيقة انتهاك صارخ لحقوق الإنسان لأنه يتضمن تجاوزا على حقوق الآخرين، فالرشوة تُدفع لإقناع شخص بأن يقوم بعمل غير قانوني وفيه تجاوز على حقوق الآخرين، وكذلك العمولات التي يتقاضاها موظفون لقاء قيامهم بوظائفهم أو لقاء تفضيلهم شخصا على آخر أو شركةً على أخرى، أو سماحهم بالتجاوز على الصحة العامة أو المصلحة العامة. كما أن سماح الشركات الكبرى، والدول المنظِمة لعملها، بالتجاوز على حقوق الإنسان في الدول الفقيرة البعيدة سيكون له تبعات قد تمتد تأثيراتُها خارج حدود تلك الدول. لذلك لم يعد التساهل في تطبيق حقوق الإنسان مسألة ترفيه، وإنما أصبحت ضرورة حياتية تحتاجها البشرية كي تعيش بسلام.