جائحة الفيروس التاجي (كوفيد 19) التي تجتاح دول العالم المختلفة أجبرت معظم الناس على تغيير أنماط حياتهم، فتغيرت عاداتهم وسلوكياتهم وكيفية أدائهم وظائفَهم، وفرضت قيودا قاسية على حرياتهم.
وقد يصبح هذا التغيير، بعضه على الأقل، دائميا، خصوصا فيما يتعلق بالعادات الصحية التي لجأ إليها معظم الناس، مضطرين، إثر انتشار الفيرروس، مثل التزام المنازل وغسل اليدين المتكرر والحذر من الاختلاط بالآخرين خشية العدوى، والاطلاع على العلوم الطبية المختلفة بهدف الوقاية من الأمراض، والعمل على تعزيز مناعة الجسم ضد الأمراض بطرق متنوعة.
كان الأطباء دائما يشددون على ضرورة غسل الأيدي باستمرار، وفي العديد من المطاعم العامة، خصوصا في مطاعم الشركات والجيوش والمؤسسات، توضع المغاسل عند المداخل، بحيث أن كل من يدخل المطعم يتذكر أن عليه أن يغسل يديه قبل أن يطلب طعامه أو يضعه في صحنه في مطاعم الخدمة الذاتية. ونظرا لأهمية غسل اليدين للصحة العامة، فقد خصصت الأمم المتحدة في عام 2008 يوما مكرسا للتذكير بضرورة غسل اليدين وحث الناس على تنظييف أيديهم، حفاظا على سلامتهم من الأمراض، لأن معظم الفيروسات والبكتيريا تنتقل إلى جسم الإنسان عن طريق اليدين، وحددته بيوم 15 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام.
أصبح الناس جميعا، بمن فيهم الشباب، ينتبهون إلى صحتهم ويميزون بين العادات المضرة صحيا وتلك التي تعزز الصحة وتقوي المناعة، وأخذوا يتعرفون على أنواع الأدوية، ومن منها يجب تجنبه، إلا في حالات الضرورة القصوى، كأنواع المضادات الحيوية التي يتردد الأطباء، في البلدان الغربية تحديدا، في وصفها لمرضاهم، إلا عندما يشعرون بوجود ضرورة لوقف التدهور في حالة المريض الصحية. بدأ الناس يهتمون أكثر بنظافة مأكولاتهم وملابسهم ومنازلهم وكل ما حولهم، كما تغير طعامهم ليتلاءم مع الشروط الصحية فأخذوا يتناولون الكثير من الفواكه والخُضرَوات التي تعزز من الجهاز المناعي لديهم، وقلصوا من استهلاك اللحوم والزيوت والكاربوهيدرات التي تسبب السمنة وترفع الكولسترول وضغط الدم.
كما أصبح كثيرون، خصوصا بين الشباب، يشعرون بمسؤولية تجاه الآخرين، فمن لا يخشى أن يتضرر شخصيا من فيروس كورونا، أو يشعر بأن لديه القدرة على مقارعته، وهذا شعور الشباب جميعا بسبب القوة والعنفوان والصحة التي يتمتعون بها، فإنه بدأ يشعر بأن إصابته بالفيروس سوف تعرض الآخرين للإصابة به وهؤلاء قد لا يمتلكون القدرة على مقارعة الفيروس الفتاك، وقد يودي بحياتهم، فبدأ يحذر ويمتنع عن الاختلاط بالآخرين. هذا الشعور بمعاناة الآخرين واحتمال تضررهم من نشاطات غيرهم سوف يعزز صفة الإيثار عند الناس ويوثق علاقاتهم مع بعضهم ويجعل العالم أفضل مما كان عليه قبل حلول هذا الفيروس اللعين، الذي ستتمكن البشرية من القضاء عليه، كما قضت على فيروسات مماثلة أو ربما أخطر منه، كالكوليرا والطاعون والجدري. عندما يصبح الجميع في خطر، يسعى الجميع لدرء الخطر معا لأنهم جميعا في زورق واحد، فإن غرق الزورق، غرقوا جميعا، وإن نجا، نجوا جميعا.
حكومات البلدان التي تعاني من هذه الجائحة وجهت سكانها بالتزام المنازل إلى أجل غير مسمى حتى تتمكن من السيطرة على الفيروس وتوفير العلاج واللقاح المطلوبين لمكافحته. لقد أصبح الجميع أمام خيارين: أما التزام البيت، أو أن الفيروس سيصيبهم ويلزمهم المنزل لشهر على الأقل، هذا إن كانوا محظوظين وبقوا أحياء!
البقاء في المنازل يغير عادات الناس فكل من لا عهد له بالقراءة والبحث أصبح الآن يتسلى بالقراءة، وعادة القراءة هي من أجمل ما يمكن الإنسان أن يعتاد عليه. وليس بالضرورة أن يقرأ موادا فكرية أو علمية معقدة، قد تكون ثقيلة وصعبة الهضم، ولكن يمكنهم أن يقرأوا الروايات الممتعة وما أكثرها في كل اللغات العالمية التي يجيدونها. ومن كان يعزف عن مشاهدة الأفلام، اصبح بإمكانه أن يشاهد الأفلام التلفزيونية، ومن كانت لديه هوايات فنية أو موسيقية فإن بإمكانه أن يطورها ويصقلها.
الرجال الذين كانوا يمتنعون عن المشاركة في الأعمال المنزلية، باعتبارها، في نظرهم، من اختصاص النساء، اصبحوا الآن يشاركون فيها كي لا يصيبهم الملل أو الكسل. العائلات التي كانت تعاني من الفرقة بسبب الانشغال أو عدم الاكتراث، أصبحت الآن تجلس وتتناول الفطور والغداء والعشاء سوية، وتشاهد الأفلام وتتابع نشرات الأخبار وتتبادل الأخبار ويتصل أفرادها هاتفيا بالأصدقاء الذين طالما اهملوا الاتصال بهم في فترات سابقة، ما يزيد في التماسك والتعارف وترسيخ الروابط بينها.
الشبان الذين كانوا يرفضون البقاء في المنازل ويمضون معظم أوقاتهم خارجها في نشاطات قد يعدُّها البعض مضيعةً للوقت، اعتادوا الآن على البقاء في المنازل، ما عزز من صبرهم وغيَّر من سلوكهم وتعاملهم مع أهاليهم. كثيرون منا كانوا يمضون أوقات فراغهم في التجوال على غير هدى في المجمعات التسوقية (المولات)، والذهاب إلى المطاعم، عدة مرات في الأسبوع دون أن يتناولوا طعاما ذا قيمة غذائية، اعتادوا الآن البقاء في المنازل والقيام بنشاطات أخرى بديلة، كالقراءة ومتابعة الأخبار والأفلام والمسلسلات وتناول الأطعمة الصحية والفواكه والخضروات أو العناية بالحديقة وسقي النباتات وتقليم الأشجار وتشذيب أغصانها. كما إن تقليص استخدام السيارات والمركبات والآليات والمكائن سوف يقلص من التلوث، ومن شأنه أن يحسن البيئة التي عانت كثيرا بسبب كثافة الغازات المنطلقة من عوادم السيارات والآليات والمكائن.
أما الذين كانوا يؤمنون بأنه يمكن شفاء الأمراض عبر الدعاء أو زيارة الأضرحة ومطالبة الراقدين فيها، من الأئمة والأولياء والصالحين، أن يتدخلوا لدى البارئ عز وجل لصالحهم، فقد توفرت لديهم الآن فرصة لإعادة النظر في عاداتهم التي قد تعود عليهم بالضرر. كثيرون من هؤلاء، في العراق مثلا، تجاهلوا إرشادات الحكومة وذهبوا بالمئات إلى المراقد التي اعتادوا زيارتها في المناسبات، لكنهم عندما يصاب بعضهم بالكورونا، فلابد أن يعيدوا النظر بهذه العادات التي لها قيمة معنوية عندهم دون شك، ولكنها لا يمكن أن تكون بديلا عن الطب والعلوم الحديثة، فهي مجرد عادات، ولا يوجد نص ديني يفرضُها على أحد، ما يعني أنها ليست من الدين ويمكن التوقف عنها إن كان هناك مبرر صحي.
أما رجال الدين الذي حثوا الناس على التجمع وحضور الطقوس الدينية والتجمعات في المراقد وإقامة صلوات الجماعة، في تجاهل متعمد للتعليمات الصحية الرسمية، فقد أدرك بعضهم هذا الخطأ الذي وقعوا فيه، فعادوا ونصحوا أتباعهم بالتزام بيوتهم بعدما أدركوا أن توجيه الناس بعكس نصائح الأطباء، هو أمر لا يرضي الله ورسوله، بل إن فيه مفسدةً تتناقض مع جوهر الدين وتعاليمه التي تنصح باتباع أفضل السبل للعيش الكريم وتجنب التهلكة.
رئيس وزراء بريطانيا وولي عهدها ووزير صحتها مصابون الآن بالفيروس التاجي (كوفيد 19) ولم تنفعهم مواقعهم الحكومية ولا أموالهم أو خبراتهم التي اكتسبوها على مر السنين في الحماية من الإصابة بهذا الفيروس الذي لاي يميز بين الغني والفقير أو الحاكم والمحكوم. فيروس كورونا يحتاج إلى عمل جماعي عالمي يقوده العلماء والأطباء ويسانده المسؤولون والأثرياء والمؤسسات العلمية والشركات كي يخلص البشرية من هذا الخطر الداهم لتستعيد حريتها التي فقدتها بسببه. الاقتصاد العالمي يخسر الآن مئات المليارات من الدولارات نتيجة لتأثيرات الفيروس على النشاط الاقتصادي وخشية الناس منه، وقد تبلغ الخسائر عشرات الترليونات، وهذا الوضع لا يمكن استمراره لأنه سيتسبب في انهيار اقتصادي عالمي غير مسبوق في التأريخ. إمكانية اختراع لقاح وعلاج لفيروس كورونا ممكنة، بل مؤكدة، وقد يحصل هذا خلال أشهر معدودة، ما يمكِّن العالم من العودة إلى نشاطاته المعتادة، وربما بهمة ونشاط أعظم من ذي قبل.
ومع كل الخلافات والتنافسات بين دول العالم، فإن فيروس كورونا وحّدها تقريبا، فالخطر يتهدد البشرية جمعاء، ويهدد بالقضاء على ما تحقق من إنجازات خلال القرون المنصرمة. المصلحة العامة تقتضي أن تواجه البشرية هذا الفيروس مجتمعة ومتعاونة، كما فعلت سابقا في ظروف لم تكن مواتية عندما كان العالم منقسما إنقساما شديدا إلى عالم غربي وآخر شرقي وثالث نامٍ. لكن المؤكد أن هذا الفيروس قد غيّر نمط حياتنا إلى الأبد.
فلم نعد أحرارا كما كنا، نسافر حيث نشاء ونخالط من نشاء ونتجول حيث نشاء. وبعد كل تلك الحرية اللامحدودة، اصبحنا الآن حبيسي البيوت، لا نستطيع حتى مصافحة أقرب المقربين ولا دعوة أصدقائنا إلى عشاء أو غداء ولا المشاركة في المناسبات العامة والا حتى مشاركة الأصدقاء أفراحهم وأتراحهم، وألغيت المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات السياسية والاقتصادية والمهرجانات الثقافية والأدبية والفنية والمباريات والنشاطات الرياضية، خوفا من أن يكون بين الحاضرين من يحمل الفيروس فينقله للآخرين. نعم أنه وضع ليس مريحا ولا محبذا، بل مزعج وضار، لكنه مؤقت وضروري، ورغم مساوئه الكثيرة، فإنه سوف يترك تأثيرات إيجابية، وربما دائمية، على حياتنا في المستقبل عندما ينتهي ونعود لممارسة حرياتنا ونشاطاتنا كما كنا نفعل سابقا. إنه التحدي الأكبر الذي تواجهه البشرية جمعاء والذي ستنتصرعليه، ولكن بثمن باهظ.