ومثلما تتغذّى من مواريث خبْرات مريرة في التّاريخ الحديث اختلّ فيها التّوازنُ لصالح الغرب، وكان الاستعمار فيها أظْهَرَ ظواهر ذلك الاختلال وأشدّ وطأةً على نفوس مَن وقع عليهم فعلُه، كذلك تتغذّى اليوم- نعني في الحقبة المعاصرة- من تأثيرات عوامل عدّة ما زالت شديدة المفعوليّة، وقابلة لتوليد الحساسيّات والمخاوف، بل والاحتكاكات التي ما تني تستفحل أحوالُها مع الزّمن. ويمكننا أن نشير، في إسراعٍ، إلى أربعةٍ من أظهر تلك العوامل الدافعة نحو تأزيم العلاقة بين العالمين وتوتيرها بين شعوبهما:

أوّلها تَضَارُب المصالح. كانتِ البلاد العربيّة والإسلاميّة، منذ فجر العصر الحديث، وما زالت، موْطِن مصالح حيويّة واستراتيجيّة لقوى الغرب الكبرى؛ الموقع الجيو-استراتيجيّ لتلك البلاد؛ ثرْوتها الطّبيعيّة الهائلة، خاصّةً النِّفط والغاز؛ وجود حركات وطنيّة فيها ذات ميولٍ استقلاليّة وصل بعضها إلى السّلطة، أحياناً، فاصطدامها بالمصالح الأجنبيّة؛ حالة العداء التي تعُمّ شعوب العالميْن العربيّ والإسلاميّ للكيان الصّهيونيّ في فلسطين المحتلّة، كما للسياسات الغربيّة الداعمة له والمدافعة عنه والمغطيّة لجرائمه؛ ثم ميْل قسم من بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ إلى محالفة دول كبرى معادية للغرب أو منافسة... إلخ. أوْجَدت هذه العوامل بيئة لخلافات دائمة بين سياسات غربيّة ساعية في حماية مصالحها وتعظيمها، في عالم العروبة والإسلام، وسياسات وطنيّة معاكسة متمسّكة بالحقوق الوطنيّة. وكم من مرّةٍ انتهت الخلافات إلى صدامات وحروب: الحروب الصّهيونيّة على الوطن العربيّ؛ الحروب الغربيّة على مصر (العدوان الثّلاثيّ)؛ المعاداة الأمريكيّة لنظام عبد النّاصر الوطنيّ ونظام سوكارنو ونظاميْ البعث في العراق وسورية ونظام العقيد معمّر القذافي؛ حروب أمريكا على العراق وأفغانستان وسورية، والصومال...؛ فيما كانت تنفجر الخلافات سياسيّاً من غير حرب كما في حالة الضّغوط الأمريكيّة والغربيّة لإنهاء قرار وقف تزويد الغرب بالنِّفط (1973)، أو في حالة ضغوطها لوقف المقاطعة الاقتصاديّة والتّجاريّة العربيّة للكيان الصّهيونيّ. في هذه الأحوال جميعِها، كان للمصالح والتّنازع عليها بين الإرادات أكبرُ الأثر في توليد أسباب التّأزّم والتّوتّر في العلاقة بين الغرب ومجتمعات العرب والمسلمين.

وثانيها تمدُّد الإرهاب إلى الدّيار الغربيّة، وإصرار الدّعاية الغربيّة على المماهاة بينه والعرب والإسلام، وتأليب شعوب الغرب، من ثمة، عليهما. ومع أنّ ضربات الجماعات «الجهاديّة» في قلب المجتمعات الغربيّة (نيويورك، واشنطن، لندن، باريس، مدريد...) أتت موجعة، وأزهقت أرواح آلافٍ من الأبرياء، إلاّ أنّ العرب والمسلمين ليسوا مسؤولين عنها، ولا أمروا بها أو وافقوا عليها، بل إنّهم ذاقوا من كؤوسها المُرّة أضعافَ أضعافِ ما ذاقَه منها الغربيّون، تماماً مثلما لحِقت مجتمعاتُهم الأذيّةُ الشّديدةُ من محالفة دولِ الغرب الجماعاتِ الإرهابيّةَ تلك، وإغداقِها الدّعمَ عليها، واستخدامها للفتك بدول الإسلام ومجتمعاته، والعربيّة منها بخاصّة (على مثال ما يحصل منذ بداية عاصفة «الربيع العربيّ»). ومع أن بلدان الغرب مرّت بتجربةٍ ذاتيّة سابقة، عُرِفت باسم تجربة «الإرهاب الثوريّ» (منظمات «الألويّة الحمراء»، «بادر- ما ينهوڤ»، «العمل المباشر»...)، إلاّ أنّ دعايتها وإعلامَها مُصرّان على تصوير الإرهاب وكأنّه صناعةٌ عربيّةٌ وإسلاميّة بامتياز. وهي، من غير مِراء، نجحت في تزوير وعي مواطنيها وشيْطنة صورة العربيّ والمسلم في متخيّله، الأمر الذي نَجَم منه توليد مشاعر العداء الغربيّ له، وتبرير السّياسات العدوانيّة ضدّ بلداننا.

وثالثها الآثار التي تولّدت من الهجرة لملايين المواطنين العرب والمسلمين إلى الدّيار الغربيّة؛ سعياً وراء العمل أو التّحصيل العلميّ. ومع أنّ المستفيد الأوّل من الهجرة تلك هي بلدان الغرب: اقتصاداً ومعرفةً وبحثاً علميّاً، وأنّ الخاسر فيها هي بلدان المَصْدَر العربيّة والإسلاميّة، التي فقدت بها ثروةً بشريّة من المَهَارات الإنتاجيّة والكفاءات العلميّة، إلاّ أنّ الهجرة هذه استُغِلّت ضدّ البلاد العربيّة والإسلاميّة ومهاجريها، فجرى تصويرُها - من قِـبَل الأجهزة الغربيّة العنصريّة- وكأنّها تهدِّد منظومة القـيم الغربيّة بقيمٍ أخرى (إسلاميّة) «مجافيّة» لها، مثلما تهدِّد التّوازن الديمغرافيّ - لسببٍ هو نسبة الخصوبة في بيئات المهاجرين- والأمن الدّينيّ. وكان لهذه الدّعاية البغيضة الأثر الكبير في تحريض أوساط غربيّة كثيرة ضدّ المهاجرين، وفي توتير علاقات الكثير من التجمّعات المهاجرة بوسطها الاجتماعيّ المقيمة فيه.

ورابعُها التّزايُد المخيف لمعدّلات العنصريّة في الثّقافة الجمعيّة الغربيّة وتأثيرات ذلك على مجتمعات الهجرة، وعلى نوع النّظرة التي باتت تكوّنُها مجتمعات الغرب عن المهاجرين وعن العرب والمسلمين إجمالاً. ويقترن تزايُد النّزعة العنصريّة مع تفاقُم الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي تضرب بلدان الغرب، ومع صعود قوى اليمين العنصريّ المتطرّف في أوروبا، أساساً، كما في الولايات المتحدة منذ عهد المحافظين الجدد. وليس من شكٍّ في أنّ موجة العنصريّة بدأت تنتقل من بيئاتها الاجتماعيّة- الثّقافيّة والحزبيّة إلى حيث تجد لها تصريفاً ماديّاً في السّياسات الرّسميّة للدّول: سواء تجاه المهاجرين أو تجاه أوطانهم العربيّة والإسلاميّة.

هذه عوامل تكفي لتغذية حال التأزّم في العلاقة بين العرب، ومجتمعات الإسلام عموماً، والغرب: دولاً ومجتمعات. وما من شيءٍ في الأفق ينبئ بأنّ أحوال التأزّم هذه آيلةٌ إلى انفراجةٍ تتبدَّد بها أسبابُها.