دونالد ترمب وبرني ساندرز يمثلان حقبة جديدة من التاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة، فالأول كان أقرب للديمقراطيين، ثم تحول إلى جمهوري، والآخر مستقل تحول إلى ديمقراطي.
كلاهما جاء من خارج المؤسسة التقليدية، إلا أنهما نجحا في إقصاء خصومهما في الانتخابات التمهيدية، لكن القاسم المشترك بينهما هو الاستثمار في نقمة القواعد على القيادات التقليدية خصوصا مع اتساع الهوة بين الغنى والفقر. منذ فوز السناتور ساندرز في إيوا والديمقراطيون يحاولون التأقلم مع هذا الواقع الجديد، إلا أن آخرين يرون في تقدم ساندرز ضمانة لنجاح ترمب في أكتوبر المقبل.
فأيهما سيعلن رئيسا في نوفمبر المقبل وكلاهما ينتمي لفئة عمرية متقدمة، ناهيك عن التاريخ الصحي للسيناتور ساندرز، وللأمريكيين تجربتهم الخاصة مع الرئيس رولاند ريغان، بعد إعادة انتخابه فترة جديدة.
ساندرز الآتي من خارج المؤسسة الحزبية، اعتمد خطاب ترمب إبان حملته الانتخابية في مهاجمة الحزب وإصلاح المؤسسة السياسية وتبنى أميركا أولا، ولئن مَثل الرئيس ترمب أقصى اليمين، فإن السناتور ساندرز يمثل أقصى ما يوصف بالليبرالية، حسب العرف السياسي الأميركي. إلا أن السؤال العالق في أذهان أغلبية المراقبين للعملية السياسية في الولايات المتحدة هو سر عزوف الناخب الأميركي عن الثقة في الفئات الشابة.
بعد فوز السناتور ساندرز في ولاية إيوا، علق عثمان العمير: "هذه ضمانة إعادة انتخاب ترامب"، وكذلك كان تعليقه على الانتخابات البريطانية، بعد أن حسم حزب العمال أمره بوقوفه خلف جيرمي كوربن. مرحلة الشيوخ (الشيبان) تأتي بعد تجربتين للناخب الأميركي مع فئة شبابية هما جورج بوش الابن وباراك أوباما، فهل يستطيع الشيوخ إعادة التوازن والاستقرار للعملية السياسية أميركياً؟.
حتى الآن أثبتت الفترة الأولى للرئيس ترامب فشل ذلك، وفي حال نجح ساندرز في الوصول إلى البيت الأبيض، لنا أن نتصور رد فعل الحزب الجمهوري في ولايته الأولى، وسيكون للشرق الأوسط نصيب الأسد منه. ربما أفقدت أحادية القطبية الولايات المتحدة شخصيتها السياسية، رغم محافظتها على موقع القيادة، إلا أنها بالتأكيد لم تعد محل ثقة الكثيرين من حلفائها.
الولايات المتحدة تعاني أعراضا ارتدادية نتيجة إدمانها صناعة القائد بمعايير الواقع الأميركي الحديث، من بيل كلينتون إلى باراك أوباما، وقد عانى المجتمع الدولي تبعات ذلك. فالتاريخ لم يشهد مثل التجربة الأميركية سياسيا، وعسكريا أو اقتصاديا، وأبسط الأمثلة على ذلك فرضها العقوبات السياسية والاقتصادية بشكل أحادي. لذلك لم تعد العملية السياسية الأميركية شأناً داخليا منذ الحرب الاميركية الإسبانية، وتجلى ذلك بشكل أكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكذلك الحال من انفلاتات سوق المال الأميركية، التي كادت تقود إلى انهيار الاقتصاد العالمي في 2008.
والآن تدخل الولايات المتحدة مرحلة أخرى من مراحل اكتشاف الذات، في هذا السباق الرئاسي إن كُـتب له أن يشهد مواجهة بين الرئيس ترامب والمرشح الديمقراطي، السيناتور بيرني ساندرز.
الانتخابات الأميركية كانت مغامرة اكتشاف القائد، أما الآن فهي صناعة المال ومؤثرات الإعلام، إلا أن وصول ترمب للبيت الأبيض ونجاح ساندرز في تخطي خصومه الديمقراطيين، وهو القادم من الخارج والأكبر سنناً وتاريخا صحيا (وسوف يكون ذلك أحد المحاور المعتمدة من خصومه في مرحلة لاحقة) تعبران عن حقبة غير مسبوقة، إلا أنها تؤكد فقدان الثقة في المؤسسة السياسية التقليدية. وهي ليست حالة أميركية، بل دولية الآن، وقد يعد نجاح الرئيس ترامب و رئيس الوزراء بوريس جونسون، أفضل اختزال لهذه الظاهرة الاجتماعية، ومثلها الكثير على امتداد أوروبا.
هل يعيد الشيوخ بعض الرزانة السياسية المفقودة، أم أننا أمام المزيد من الشعبوية الأميركية بمعايير متناسبة والترامبية المعهودة؟
في كل الأحوال سيكتب علينا معايشة التجربة بكل مخاضاتها، ليس لأنها غير مسبوقة، بل لأنها أميركية، والانتقام من المؤسسة السياسية الآن، ضالة الناخب الأميركي.