في العام الماضي خلال الحرب على داعش في العراق وسوريا، لم يتراجع الرئيس الأميركي عن تحميل الناتو عبء ميزانية بلاده، مكررا وصفهم بالبخلاء، وبدت قمة "النميمة" كما درج على تسميتها في الرابع والخامس من ديسمبر 2019 مسرحا كبيرا لترامب خلال احتفال الحلف بالذكرى السبعين لتأسيسه، لتكشف حجم خلافاته، في ظل غياب التوافق على الأهداف والاستراتيجيات.

اليوم، يبدو المشهد مثيرا، الرئيس الأميركي يطلب بنفسه من الناتو توسيع مهامه في العراق، والحلف يستجيب ببساطة دون مناكفات، بعد أن علق مهماته عقب مقتل سليماني، وقوام المهمة حدد بـ 500 فرد يقومون بالتدريب فقط لا أكثر، وهم سابقا لم ينتشروا إلى جانب القوات العراقية أثناء عملياتها، و لا يمكن للعراق أن ينفصل عن المشهد وهو ساحة المواجهة بين طهران وواشنطن.

اتصالات مكثفة تمت طوال أسبوعين، الجميع سارع الخطى مجبرين لا مخيرين ، والأنفاس انحبست  قبل أن تطلق على عجل خطة وجود الناتو عقب التوترات بين إيران والولايات المتحدة، عدد القوات الغربية التي تعمل تحت مظلة الناتو لن يزيد، وقرار الناتو توسيع مهامه لا يتطلب بالضرورة بحسب الأمين العام للحلف زيادة عدد القوات الغربية التي تعمل تحت مظلته في العراق، وهنا إشارة واضحة لخصوم واشنطن بالهدوء وعدم التصعيد، تحديدا بعد إحالة قوات الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش إلى مهمة الحلف الأطلسي لتعزيز هذه المهمة، وهو البند الأكثر رمادية. 

لم يحدد ترامب ما يريده بوضوح من هذه القوات وهو ما يثير قلق البعض، فسابقا غضب مسؤولون عراقيون على رأسهم رئيس الجمهورية برهم صالح عندما قال الرئيس الأميركي بكل صراحة إن أبرز مهام  القوات الأمريكية في عين الأسد مساعدة إسرائيل على مراقبة إيران لاتهامها بدعم الإرهاب والسعي لامتلاك أسلحة نووية، واليوم يدلي السفير الأميركي في الناتو بتصريحات مقتضبة زادت المشهد ضبابية، فما الذي يتبع تقديم مشورة من الحلف لقوات التحالف؟ وهل فعلا باريس وبرلين مطمئنتان فقط لعدم وجود جنرال أميركي في المهمات؟ وهل تضمنان ردود فعل ترامب اللاحقة؟ أم أن ما يجري فقط لتحسين صورة حضور الحلف بعد مهاجمة ترامب له باستمرار ؟.

تمديد الاستثناء الأمريكي للعراق، والسماح له باستيراد الغاز من إيران خارج نطاق أي عقوبات، والذي من المتوقع أن يمدد له لفترة إضافية خلاف المعلن عنها الآن مع وضوح في رغبات واشنطن بهذا الاتجاه يبين حجم الثقة الأميركية في البقاء داخل العراق من خلال هندسة جديدة تقدم هذه المرة من على طاولة الحلف، الذي يواجه ظروفاً صعبة في إدارة أولويات الأمن القومي المتباينة لأعضائه، ومن ضمنهم الولايات المتحدة، العضو الرئيسي، وعدم قدرته على إنكار أهمية المعركة ضد داعش وبانها أولوية أساسية مشروعة  للولايات المتحدة الأميركية. 

الرئيس الأميركي لم يعد مهتماً بالدفاع عن أوروبا، ووضع سابقا عملية "نبع السلام" التركية شمال سوريا في ذلك الوقت نصب عينيه كدليل على خلل سياسي داخل التحالف، واليوم بات ترامب في حاجة الحلف للبقاء بسلام داخل العراق وإثبات حسن النوايا لأي أطراف تكن العداء لواشنطن، ويبدو أنه يتجاوز بذكاء خصومه حين استفزهم سابقا بتصريح بمراقبته لإيران من خلال العراق، ويضعهم أمام مجتمع دولي كامل. 

 دور جديد في العراق مع ترقب إعلان تشكيلة الحكومة الجديدة، و تبدو مطالبات واشنطن مشروعة جدا حول مخاوفها تجاه أمنها القومي أمام الرؤية الواضحة للاتحاد الأوروبي بأن "تركيز الولايات المتحدة خارج أوروبا يعتبر تركيزا خارج نطاق الناتو"، ولا بد من الوقوف جيدا أمام القدرات العسكرية لمعظم دول الحلف والتي لا تزال معدة لحالات الطوارئ، وعلى ضوء ذلك تمتلك واشنطن أوراق اللعب بشكل منفرد بطريقة تضعف أي تأثير للأوروبيين على الأميركيين حيال مسائل الأمن أينما حلت.