حين يتحدث أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربية، فإن الرجل يتكلم بلسان 22 دولة عربية، ارتضت أن يكون هو القلب النابض لبيت العرب على ضفاف النيل، البيت الذي نظر إليه البعض في الأعوام الأخيرة نظرة خصمت الكثير من أهميته، وقد أثبتت النوازل أنه الملجأ والمقر الذي يقصد في أوقات المحن والبلايا.
في حوار لا تنقصه الصراحة على شاشة إحدى القنوات الفضائية المصرية، أجرى أبو الغيط ما يمكن أن نسميه نقدا ذاتيا لأحوال الجامعة العربية، خلال أكثر من عقد، وقد كان أمينا وصادقا إلى أبعد حد ومد، واستعان بأدوات النقد الموضوعي، التي قال عنها الفيلسوف الألماني الكبير "كانط" إنها أفضل هدية قدمتها السماء للعقل، لا سيما في الأوقات الحرجة.
مؤكد كان لليبيا نصيب الأسد، لاسيما بعد مؤتمر برلين، الذي ترك العرب عامة والليبيين خاصة، يتساءلون عن المصير المجهول لهذا البلد الشقيق.
المفاجأة في كلام أبو الغيط، أن الرجل حمَّل الجامعة العربية جزءاً من مسؤولية ما يحدث هناك على الأرض بالفعل، انطلاقا من أن عقول مفكريها في 2011 لم يقدر لها أن تتنبأ بالنوايا غير المواتية للمصالح العربية، التي يمكن أن تفرض نفسها، وتؤدي إلى هذه المأساة.
قليلون الذين يعرفون المراحل الأولية، التي شكلت عقل أبوالغيط الدبلوماسي المصري الشاب، وقربه من مستشار الأمن القومي المصري الأشهر محمد حافظ إسماعيل، الذي لعب دورا بارزا في انتصارات أكتوبر 1973، ما أكسب الأمين العام للجامعة الحالي، قدرة استشرافية فريدة في النظر إلى ما هو أبعد من مقدرات اللحظة الآنية، وعمل حساب للتداعيات، والنظر بمنظار معظم إلى مشاهد الاستشرافات القائمة والقادمة.
رفض أبو الغيط إحالة الجامعة العربية الملف الليبي إلى مجلس الأمن، ليس جديدا، فقد أبدى اعتراضه رسميا خلال شغله منصب وزير خارجية جمهورية مصر العربية، ووقتها أشار إلى بعض القضايا التي يجب ألا تحيلها الجامعة لمجلس الأمن، حفاظا منه على مقتضيات وضرورات الأمن القومي المصري، وتقاطعاته وتشارعاته مع الشأن الليبي.
أبو الغيط عروبي حتى النخاع، ومصري أصيل من رأسه إلى أخمص قدميه، وقارئ جيد للتاريخ، وقد أخبره الراوي من قبل بأن ليبيا كانت مطية وكرة تتقاذفها القوى الاستعمارية، بين السلطنة العثمانية ومملكة إيطاليا، وعلى مدى قرنين لم يهنأ الليبيون بالاستقرار ولا عرفوا طريقا إلى الاستفادة من ثروات بلادهم، وأدرك مبكرا أن قسمة الغرماء مخططات البعض لهذا الوطن الثري بمصادره الطبيعية، لا سيما من النفط والغاز، والفقير جدا إلى الكفاءات التي تدير ممتلكاته، وتعمد إلى بلورة نماذج للتنمية المستدامة، المستقرة والمستمرة، وسط حالة من التنافس الإيطالي لمصالح اقتصادية داخل الأراضي الليبية.
حديث أبو الغيط يجعلنا نفكر بعمق في أمرين: الأول وضع جامعة الدول العربية، والثاني في أهمية الدولة الوطنية العربية.
أما الجامعة العربية فقد وصفها السلطان العثماني، المقهور تارة والموتور أخرى أردوغان، بأنها "الكيان المزعزع"، فإن نطقنا الكلمة بفتح الزين، يوجب العمل جاهدين على تقوية حضور هذا التجمع العربي، والذي ما من بديل له على الساحة حتى الساعة، وإن نُطقت الكلمة بكسر الزين الثانية، فبها ونعمت، إن كانت هي القادرة على زعزعة أحلام وأوهام تركيا.
يتحدث أبو الغيط بنصيحة الزعيم الفرنسي الكبير الراحل شارل ديجول، أي أنه لا يقرأ الأحداث السياسية والتحركات الجيوبوليتيكية، إلا على هدي الخريطة الجغرافية، وهو يرى أن تركيا تجد نفسها في إطار جغرافي ضيق للغاية، وترى روسيا تتجاوزها في ما يخص أنابيب الغاز المصدر إلى أوروبا، ما يجعلها تفقد أي أوراق ضغط في مواجهة الأوروبيين، وأنقرة عدو لا ينكر عداءه الأدبي أول الأمر وآخره لبروكسل، تلك التي رفضت انضمام الأتراك إلى عضويتها، ومن هنا يفهم أبو الغيط مناكفات أردوغان في ليبيا، ولعبه على المتناقضات لتحقيق مصالحه، فهي تشتبك مع إسرائيل تارة على مصالح الغاز، وعلى خطوط غاز ممتدة إلى أوربا، وتمضي الآن في طريق فرض أمر واقع، من خلال الشراكة مع حكومة السراج المنتهية الفاعلية تارة أخرى، للتنقيب عن الغاز في المتوسط، بهدف إحداث قلاقل لا توفر مصر ولا أوروبا من آثارها.
الذين تابعوا حديث أبو الغيط، يمكنهم تقدير الموقف والتوصل إلى نتيجة مفادها أن مغامرة أردوغان في ليبيا كلامية جوفاء، رغم إرساله بالفعل إرهابيين كانوا يمثلون عبئا على بلاده إلى ليبيا للخلاص منهم، فأوهامه في مد نفوذه إلى حوض البحر المتوسط، سوف يؤدي إلى مواجهة حاسمة وحازمة مع القوى الكبرى، لا سيما الأوربية، وربما لهذا حركت فرنسا مؤخرا إحدى حاملات طائراتها، لمتابعة الأوضاع في المتوسط لأشهر عدة، وهي رسالة غير مباشرة، إلى تركيا، وتحذير لها من أجل الدفاع عن المصالح الفرنسية في مياه المتوسط.
تخبرنا العلوم الشرعية بأنه لا تغفر الذنوب إلا برد المسلوب، وعليه ينبغي أن نتساءل هل يسعى أبو الغيط للتكفير عن خطأ الجامعة العربية، الذي أدى إلى استعداء مجلس الأمن على ليبيا، بمشروع قرار عربي مائة في المائة، يرفع للمجلس عينه لإصدار قرار يتبنى الإطار العام الذي تمت الموافقة عليه في مؤتمر برلين؟
بل أبعد من ذلك هل نحلم بقوة عسكرية عربية، تكون الأداة التي من خلالها يستعيد الليبيون استقرار بلادهم، سواء بمفردها وبموافقة مجلس الأمن، أو في أضعف الأحوال من خلال قوة أممية كبرى، تعمل بداية على سحب السلاح من أيدي الليبيين، وتنظم أحوال القوات المسلحة الوطنية الليبية، إضافة وهذا هو الأهم، إلى تصفية ليبيا من الإرهاب وطردها الإرهابيين وإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية؟
ينبهنا أبو الغيط وهو أحسن ما قاله، إلى ضرورة الحفاظ على الدولة الوطنية العربية، إذ أن بديلها الميليشات، ويقرع الجرس إلى أوضاع جامعة الدول العربية، التي لم تعد على ما يرام، وهناك 12 دولة عربية لم تسدد مساهماتها المالية للجامعة منذ سنوات، ولسان حاله يقول: "إذا فقدت الجامعة العربية حضورها، فأين يذهب العرب، في ظل التكتلات الدولية المشوبة بصحوة القوميات وعنصرية الأعراق والمذاهب؟
صيحة أبو الغيط... هل تصل أسماع العرب؟