حتى ذهب مؤرخون كثيرون إلى الاعتقاد بأن سبب تحول شاه إيران إسماعيل الصفوي، إلى التشيع، كان من أجل تمييز شعوب إيران عن شعوب الدولة العثمانية، لأن كثيرا من سكان إيران أذريون أتراك، لذلك عندما تحولوا طائفيا، أصبحت لهم هوية مختلفة عن الأتراك الآخرين في الدولة العثمانية.

وقد تمكنت الأنظمة الإيرانية المتعاقبة من إقناع شيعة كثيرين خارج إيران بأن قوتهم وسلامتهم تكمن في قوة إيران، وأن عليهم أن يعملوا من أجل تعزيز قوة إيران كي تتمكن من حمايتهم باعتبارهم أقليات ضعيفة! ولهذا السبب سعت إيران عمليا إلى إضعاف الشيعة وتمزيق صفوفهم وتخريب علاقاتهم مع الآخرين، كي يبقوا تابعين لها.

لكن إيران لم تتمكن، مثلا، من التأثير على دولة أذربيجان الشيعية المجاورة لها، على الرغم من الروابط الجغرافية والقومية والدينية والثقافية الوطيدة التي تتمتع بها تلك الدولة مع جزء من كبير من الشعب الإيراني، ألا وهو الشعب الأذري. والسبب في عدم تأثر أذربيجان بسياسات إيران هو أنها دولة متماسكة وقوية ولها هوية قومية منفصلة ولا تتبنى المذهب كأساس للحكم. وقد عززت أذربيجان من استقلالها بإقامة علاقات متوازنة مع دول العالم الأخرى وفق ما تتطلبه مصالحها كدولة مستقلة ذات سيادة وهوية ومصالح محددة.

ولأن إيران تعرف جيدا قوة التماسك الوطني والثقافي في أذربيجان، ورسوخ الهوية الأذرية لدى مواطنيها، فإنها لم تسعَ بقوة للتأثير عليها، لأنها تخشى من عواقب مثل هذه السياسة على وحدة شعبها خصوصا عند نشوب صراع معها، فنسبة كبيرة من الإيرانيين هم أذريون، بمن فيهم المرشد (الأعلى) علي خامنئي. وعلى الرغم من الروابط الوثيقة بين إيران وأذربيجان، فقد وقفت إيران على الضد من مصالح أذربيجان في الكثير من المواقف، منها مثلا موقف إيران المساند لأرمينيا في الصراع بين البلدين على مقاطعة "ناغورني كاراباخ" التي تدعي أرمينيا عائديتها بينما تشكل المقاطعة جزءا من دولة أذربيجان رسميا.

غير أن إيران تمكنت من إقناع بعض الشيعة في بعض البلدان العربية، كالعراق، من أنهم ضعفاء بدونها وعليهم أن ينسجموا معها ويعملوا من أجلها إن أرادوا أن يكونوا أقوياء، وهذه أكبر خدعة مارستها إيران ضد الشيعة في بلدان العالم الإسلامي، فجعلتهم يشعرون بالضعف والهوان والحاجة إلى (الأخ الأكبر). الحقيقة أن الشيعة، خصوصا في العراق، لا يحتاجون إلى إيران مطلقا، لأنهم أقوياء بدونها، فهناك أكثر من 20 مليون شيعي في العراق الذي يقترب عدد نفوسه من 40 مليونا، ومعظم هؤلاء عرب عراقيون مرتبطون ببلدهم وهويتهم العربية العراقية ولا يحتاجون وصاية إيرانية عليهم ولا حماية من إيران، لأنهم ابتداء لا يواجهون أي خطر خارجي، سوى الخطر الإيراني، وثانيا لأنهم قادرون على حماية أنفسهم وبلدهم من أي خطر محدق به وبهم، إن وجد مثل هذا الخطر، وثالثا فإنهم عاشوا كل هذه القرون مع سكان العراق الآخرين من الأديان والمذاهب والقوميات الأخرى دون تهديد أو خطر، ومشاكلهم إنما بدأت بسبب تدخلات إيران في شوؤن بلدهم خلال العقود الأربعة الأخيرة. بل يمكن الجزم بأنهم سوف ينتفعون كثيرا وتتطور حياتهم إن تركتهم إيران يعيشون مع الشرائح المجتمعية الأخرى بسلام ووئام ويعملون على تقوية الدولة العراقية كي تتمكن من خدمة سكانها جميعا.

السعي الإيراني لتوظيف شيعة في مليشيات عسكرية يحاربون ضمن مخططاتها العدوانية على الدول الأخرى، حولهم إلى مرتزقة وقتلة يعملون ضد بلدانهم وشعوبهم، وهذا ما لا يترضيه معظمهم لأنهم في الحقيقة يريدون أن يعيشوا بكرامة وفي دولة قوية تحظى باحترام العالم، وليست دولة هزيلة تتحكم بها مليشيات إجرامية تتصرف خارج القانون والدستور. لقد تغير العالم كثيرا خلال نصف القرن المنصرم ولم يعد بالإمكان اضطهاد مجموعة بشرية في أي بلد دون أن تكون هناك خسائر جرّاء هذا العمل الذي ترفضه دول العالم، بالإضافة إلى أنه يخالف القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان التي تسعى كل دول العالم إلى الالتزام بها، ليس فقط من أجل أن تكون منسجمة مع المجتمع  الدولي، الذي تحتاجه لتنمية اقتصادها وتطوير مجتمعها، ولكن من أجل أن تكون متماسكة داخليا، فالاضطهاد لأي شريحة مجتمعية، مهما كانت صغيرة، لا يأتي بنتائج نافعة لأي دولة لأن الشعوب ترفضه بشكل عام لأسباب إنسانية، ولأنه يولد احتقانات وبؤر عنفية داخلها تلحق بها أضرارا اجتماعية واقتصادية وسياسية على الأمد البعيد، لذلك لا يمكنه أن يمر بسلام.

ومن هنا فقد أصبح ضروريا لكل الشرائح المجتمعية في بلداننا العربية أن تنسجم داخل دولها وتتمسك بهوياتها الوطنية والقومية وتفكر بالمفيد والنافع لمجتمعاتها ودولها ولا تتأثر بسياسات دول أخرى، لا تهدف إلا لإضعاف مجتمعاتها، حتى وإن كان ظاهرها إنسانيا ودينيا. لن يستفيد أي فرد أو أي جماعة سكانية من اتباع سياسات دول أخرى، كإيران، التي أصبحت تنشئ المليشيات في هذا البلد أو ذاك لأهداف توسعية وعدوانية، لأن المتضرر الأول منها هو الدول التي تعيش فيها تلك الجماعات، أما إيران فهي دائما تبقى بعيدة عن البؤر العنفية التي تخلقها في الدول الأخرى. مواطنو الدولة، أي دولة، لا يحميهم ولا ينفعهم سوى دولهم نفسها، وإن كان بعضهم يشعر بمظلومية، فعليه أن يسعى عبر القوانين والأساليب المشروعة، لرفع هذه المظلومية، وليس عبر الانخراط في مليشيات من شأنها أن تمارس العنف وتعتدي على الآخرين وتجلب الضرر والأذى وربما العقوبات الدولية على الدولة ككل.

لقد قتلت المليشيات التابعة لإيران آلاف العراقيين حتى الآن، من مثقفين وأكاديميين وصحفيين ومواطنين عاديين لمجرد أنهم يخالفون النظام الإيراني في الرأي في قضايا تخص بلدانهم، وكان آخرَ هؤلاء هو الصحفي الشجاع ذو الشعبية الكبيرة في العراق، أحمد عبد الصمد، الذي قتله "مجهولون" في البصرة يوم الجمعة الماضي مع صديقه وزميله صفاء غالي. هذه الجريمة النكراء وغيرها نبهت  كثيرين لخطورة بقاء المليشيات التي تتذرع بأنها "مقاومة"، (ولا أحد يعرف مقاومة ماذا)، وأنها تعمل ضمن (الحشد الشعبي)! لقد آن الأوان أن ينتبه السياسيون العراقيون ومعهم كل صنّاع الرأي العام، من مثقفين وأكاديميين ورجال دين، للوضع المزري الذي وصل إليه العراق اليوم بسبب تبعية الجماعات المسلحة لإيران وممارستها القتل بحق خيرة الشباب العراقي. لا شك أن أعمال القتل هذه ستكون لها عواقب وخيمة على التماسك الاجتماعي، لأنها ستدفع كثيرين لحمل السلاح من أجل حماية أنفسهم، وهذا يعني أن المعارك المسلحة سوف تنتقل إلى الاحياء والشوارع والمنازل.

وكل عملية قتل، وإن ارتكبها ملثمون "مجهولون" الآن، فإن الحقائق سوف تظهر للعيان، وأن مرتكبيها لن يبقوا مجهولين إلى  الأبد، وعندئذ سوف يقود هذا الوضع إلى أعمال انتقامية بحق مرتكبيها. ويعني هذا أيضا أن العراقيين سينشغلون بالاحتراب الداخلي وحل المشاكل التي تخلقها إيران وأتباعها لهم، بينما تصبح طموحاتهم بإعمار بلدهم وبناء دولة عصرية متصالحة مع العالم مجرد سراب. 

مستقبل العراق لا يبشر  بخير، وعلى المرجعيات الدينية المؤثرة أن تعي خطورة الوضع وتدعو الحكومة العراقية رسميا إلى اتخاذ خطوات عملية عاجلة بحصر السلاح بيد الدولة ودمج مؤسسة (الحشد الشعبي) بالجيش بدلا من أن تبقى تعمل على شكل مليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني الذي بدأ قادته يضعون علم الحشد الشعبي ضمن المليشياتت التابعة لهم. هل يقبل العراقيون أن تكون هناك مؤسسة أمنية عراقية تابعة لدولة أخرى تعمل ضمن مؤسساتهم الأمنية؟ لقد استثمرت إيران فتوى الجهاد لصالحها، وأصبح (الحشد) التابع لها، مقدسا لأنه أنشئ وفق فتوى من مرجع الشيعة الأعلى، علي السيستاني. بينما الحقيقة هي أن الفتوى لم تشر من قريب أو بعيد للحشد. لذلك، اصبح ضروريا الآن ألا تسمح المرجعية لأتباع إيران باستخدام اسمها لقتل العراقيين باسم الحشد الشعبي.