مع الاكتشافات الضخمة لاحتياطيات الغاز الطبيعي لدى مصر، يترتب على المجالس والهيئات والأجهزة القومية مواصلة الجهود في إعادة تصور نطاق التأثير للجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية المصرية، اللتين ستكون لهما اليد الطولى في تعامل الدول معها.
وسيصل تأثيرها إلى محيطها وسيطرتها على زوايا المراوغة والابتزاز الإقليمي، للتسوية مع إثيوبيا في ملف الأمن المائي، ولردع تركيا عن اقتحام الجوار الليبي، والاتفاق مع روسيا على حفظ قيمة الغاز واقتسام السوق الأوروبية.
بحسب المصادر المفتوحة، تحتل مصر المرتبة 16 عالمياً باحتياطي غاز يبلغ 77 تريليون قدم مكعبة، بينما تحتل إثيوبيا المرتبة 69 باحتياطي 0.9 تريليون (900 مليار) قدم مكعبة، أي أن احتياطي غاز إثيوبيا يعادل 1.17% مما تمتلكه مصر، وبالتالي تبرم اتفاقيات للأمن المائي مقابل أمن الطاقة، فليس أجدى اقتصادياً ولا لوجستياً للبلدين من بعضهما. وربما أثير موضوع استيراد إثيوبيا للغاز من مصدر آخر، إلا أن الدولة التي لديها فرصة للمقايضة الاستراتيجية، يجب أن تستغلها بحكمة، ترقى للتي أظهرها رئيس وزرائها آبي أحمد في السودان وإريتريا.
شمالاً، تنقب تركيا عن الغاز سعياً للحصول على موقع مساومة في معادلة الطاقة المستجدة لهذه السلعة الجيوسياسية، إن لم يكن لاستهلاكها المحلي فلتحجيم السوق لصالح الغاز الروسي العابر لحدودها إلى أوروبا. وبين ابتزاز تركيا لأوروبا بالمهاجرين وتدفق الطاقة، وابتزازها للناتو وأميركا بتنصيب منظومات صواريخ S-400، يظهر مجال للنفاذ المصري عبر الاتفاق مع روسيا على حصة السوق، في نطاق مصغّر يشبه مبادرة أوبك+ بين حصة النفط السعودي والروسي، لكنه يعتمد على الأهمية الجغرافية والقرب من الأسواق بدلاً من حجم الإنتاج. هنا يجدر التفاوض على كبح روسيا الجزئي لتركيا أردوغان، الذي سخر في الماضي من قناة السويس الثانية، وهو اليوم يسعى لحفر قناة اسطنبول، ليربط البحر الأسود بالأبيض المتوسط. ومع أهمية الدور المصري لاستقرار ليبيا، ومحاولة أردوغان لاستغلال تونس والجزائر في تدخله بليبيا، فإن الوضع يستوجب التصدي اللوجستي للأتراك في شمال إفريقيا، واتفاق توزيع حصة بيع الغاز مع الروس في عقر دار أردوغان، على أن تكون لمصر كلمة يفرضها الرئيس بوتن نيابةً عنها على تركيا المستوعبة للأنابيب الروسية.
على صعيد تراكم المصالح، وقعت مصر عقوداً بمئات الملايين من الدولارات مع شركات أميركية وأوروبية لاستخراج الغاز وتوفير الخدمات المساندة والثانوية، وهذه الشركات تنتمي لقطاع الطاقة ذي النفوذ الكبير في المشهد السياسي في دوله على اختلافها، وهذا عاملٌ تعرفه جيداً دول الخليج منذ بداية حقبة النفط فيها. هو عامل الزخم الربحي الذي يسهم في التنمية المستدامة بقدر ما يمنح ثقلاً نوعياً للسياسة الخارجية المصرية، وهو الثقل الذي نتمنى أن يزداد ويؤثر إيجاياً، لمصلحة مصر التي في خاطرنا جميعاً.