عندما تولى السلطان المملوكي، الظاهر بيبرس، عرش سلطنة المماليك، كان أول ما حرص عليه هو توزيع مهام إدارة الدولة على عدد من المؤسسات فتولت كل واحدة منها مهاما والتزامات محددة بدقة وصرامة.
وجعل الظاهر بيبرس، للديوان السلطاني أمراءه حتى ينظموا أعماله ومراسمه، وللجيش أمراء وموظفين لسجلاته وتسليحه وإدارة مهامه العسكرية، أما أموال الدولة والأموال السلطانية فلها موظفيها وممسكين بسجلاتها، وغيرهم لمهام مراقبة الأسواق، فضلا عن آخرين لمهام البناء والصحة والتعليم والإدارات المحلية والقضاء.
وثمة من يصف بيبرس بأنه المؤسس الحقيقي لدولة المماليك التي يمتد عمرها من 1250م إلى عام 1517 للميلاد.
وهذا النظام الإداري العتيد كان له عظيم الفضل في استقرار الكيان المملوكي أمام التحديات التي طالما واجهت الدولة، سواء تلك الخارجية من حروب وغزوات، أو نوازل داخلية من انقلابات ومؤامرات وأوبئة ومجاعات. حتى أن غياب رأس الدولة نفسه -السلطان- نظرا لوفاته أو خلعه أو مقتله لم يكن ليؤدي لانهيار الدولة نفسها.
وسرعان ما كان المنادي يطوف بشوارع القاهرة ينادي في الناس بالأمان وأن استمروا في البيع والشراء وطلب المعيشة.
هذا النظام الراقي الذي يمكن للقارئ الاطلاع على تفاصيله من خلال كتاب القلقشندي "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" جاء العثمانيون وبدلاً من أن يتبنوه فيصلح حال البلاد والعباد، نسفوه وسحقوه واستبدلوا به نظامهم الذي كان عين الفساد والظلم والخراب.
المحتل يحول مصر لبقرة حلوب
بعد أن كانت مصر دولة مستقلة تحكم نفسها، وتدير من عاصمتها القاهرة إمبراطورية تضم إلى جانبها الشام وجنوب الأناضول والحجاز واليمن والنوبة وقبرص، صيرها المحتل مجرد ولاية يقبع على كرسيها باشا معين من قبل سلطان اسطنبول، مهمته حلبها حتى إعجافها ولو مات أبناؤها جوعا.
فموارد مصر صارت بأمر السيد العثماني تمول المطالب الآتية: الحملات البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط، الغذاء في كل من مكة والمدينة، الاحتفالات والهدايا والعطايا في القاهرة بمناسبة انتصارات الجيوش العثمانية في أي مكان في العالم، رواتب الفرق العسكرية العثمانية السبعة (الأوجاقات) من جند مماليك وإنكشارية، الموظفين العثمانيين في مصر من قباطين وولاة وإداريين وقضاة، عطايا الوالي المعين جديدا للجند لكسب ولائهم وتلبية طلبهم الدائم للأموال أو عند تمردهم عليه لاستمالتهم إلى جانبه ودرء شرهم.
أما ما يتبقى بعد ذلك فيبعث إلى اسطنبول تحت حراسة مشددة ووسط أجواء احتفالية كبيرة تحت اسم "الخزانة الإرسالية" ومعه صناديق تحتوي الهدايا من طرف وتحف وحلوى للسلطان وحاشيته وحريمه!
والسؤال هنا: ما الذي كان يتبقى للمصريين وحقوقهم عند الدولة، خاصة فيما يتعلق بمطلبي الصحة والتعليم؟ الإجابة هي: لا شيء! فالدولة العثمانية - شأن الدول الموصوفة بأنها "تأخذ ولا تعطي"-كانت تنظر لهذين المطلبين باعتبارهما من الأمور التي تلقى على عاتق رعايا الإيالات(الولايات/المستعمرات) ورهنا بأهل الخير منهم إن أرادوا أن ينشئوا مدرسة أو كتابا أو مستوصفا صحيا بسيطا.
فمصر بالنسبة للعثماني لم تكن سوى مورد لتمويل السلطنة أو قاعدة للجند العثماني والأساطيل العثمانية، السؤال التالي هو: وماذا لو لم تكفِ موارد مصر لتفي بالمتطلبات العثمانية سالفة الذكر فضلا عن الخزينة الإرسالية؟ الإجابة المفزعة هي: لا مجال لهذه الفرضية، فليزد الوالي الضرائب، أو ليبتكر ضرائب جديدة، أو حتى ليلجأ للمصادرات بأي ذريعة، فمنصبه -بل وربما حياته- رهين باتخامه خزانة سيده السلطان بالمال، وإغلاق الأفواه المفغورة دوما لطلب العطايا للجند والأمراء في القاهرة!
يمكننا أن نستنتج إذاً حال المصري البسيط في ظل هذه الظروف، فالسلطان يضغط على الوالي لاستخلاص أموال ولايته، والجند الإنكشارية والمماليك يضغطون عليه لرفع رواتبهم، زد على ذلك أن متوسط مدة ولاية الباشا على مصر هي من 3 إلى 5 سنوات يعتبرها خطوة انتقالية لمنصب أرفع في السلطنة وبناء عليه، فهو مطالب بإثبات كفاءته، وبين أحجار هذا الرحى يعتصر المصري لدفع تكلفة هذه الضغوط!
المحتل العثماني ينتهج أسلوب فرق تسد
ابتكر الرومان قديما أسلوب "فرق تسد Devide et impera لحكم العالم وتجنب اتحاد الخصوم ضدهم أو تمرد الخاضعين لهم على سلطتهم، أثبت العثمانيون أنهم التلميذ الذي فاق أستاذه في هذا المجال.
فقد حرصوا عند تنظيمهم إدارة مصر على خلق مراكز قوى متنافسة ومتناحرة يضرب بعضها بعضا، كي لا يستقر الوضع السياسي الداخلي فينزع الوالي أو المتغلب للاستقلال عن السلطنة بتلك الولاية الهامة.
أول مراكز القوى هي الوالي، وعادة ما كان أحد الوزراء العثمانيين، يولى على مصر كمرحلة انتقالية طمعا في إثبات كفاءته لتولي منصب أكبر في اسطنبول، وهذا الوالي يفترض أن يكون رأسا للجهاز الإداري ومسؤولا أمام السلطان عن إدارة الولاية.
المركز التالي هم الجند الإنكشارية، ويمثلون الحامية العثمانية ويد بطش السلطان، لكنهم سرعان ما راحوا ينافسون الوالي ويبتزونه طلبا للأموال، فإن لم يرضخ لهم انهالوا على العباد سلبا ونهبا وترويعا حتى يضج العامة وتبلغ أنباء انعدام الاستقرار إلى مسامع الباب العالي فيطيح بواليه.
القوة الثالثة هي المماليك، وكانوا في البداية من أولئك الذين خانوا وطنهم وانحازوا للغازي العثماني، فنالوا رتب الباكوية واستكثروا من المماليك بدورهم، والذين تمخضوا عن أجيال مملوكية تالية وهكذا دواليك، وراحوا يتنافسون حتى انقسموا إلى حزبين "قاسمية" و"ذو الفقارية".
وصاروا يتقاتلون فيما بينهم من ناحية، ويحاربون الوالي من ناحية أخرى، حتى جاء فريق ثالث هو "القازدغلية" فاستولى على السلطة حتى جاء مملك قوي هو علي بك الكبير فأطاح بمنافسيه وحاول الاستقلال بمصر لولا انقلاب مملوكه محمد بك أبو الذهب عليه، ثم هلك هذا الأخير، فجاء عهد الأميران مراد بك وإبراهيم بك اللذين تسلطا على البلاد حتى دهمتهما الحملة الفرنسية بقيادة نابوليون بونابارت وعانت مصر ويلات المحتل الفرنسي بعد طول معاناة من طغيان المحتل العثماني.
وقد هان شأن السلطة الرسمية الممثلة في الوالي إلى حد استحداث البكوات المماليك لمنصب "شيخ البلد" الذي صار بيده الحل والعقد، وصاروا في حال لم يرضوا عن وال ولم يشبع نهمهم للمال والثروات يرسلون له رجلا عرف بـ"أبو طبق" لارتدائه قبعة على هيئة الطبق، يصعد له في قلعة الجبل مقر الحكم ويقول له "انزل يا باشا" في إشارة لخلعه!
فلم تعد المهام والوظائف إذاً مرتبطة بقانون أو نظام بل صارت رهنا بمن يستحوذ عليها طمعا في سلطتها وما تدره من أموال، فيصيرها مطية لطموحاته بقوة السلاح. وفي وضع كذا يسهل أن ندرك مستوى انحدار وانهيار الإدارة في بلد كان فيما مضى يفخر بأن حتى موت سلطانه لا يمنع استقرار الحياة فيه.
فساد القضاء والتضييق على المتقاضين
عندما وضع الظاهر بيبرس النظام القضائي لمصر، جعل أربعة قضاة في منصب "قاضي القضاة"، بموجب قاض لكل من المذاهب السنية الأربعة الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، ليحتكم كل فرد للقاضي الذي يتبع مذهبه، وكان لكل من القضاة الأربعة نواب في الولايات حسب كثافة التابعين لهذا المذهب أو ذاك.
وكان السلطان يجلس يومين أسبوعيا في الحوش السلطاني بقلعة الجبل لسماع شكاوى الرعية ممن لم ترضهم أحكام القضاء فيما يشبه اليوم نظاما الاستئناف والنقض للأحكام..
وكان من شروط المشتغلين بالقضاء أن يكونوا على علم كافٍ بأحوال الرعية وعاداتها وتقاليدها وأعرافها وأنماط حياتها ليسهل على القاضي، فهم القضية المعروضة عليه
وإلقاء الحكم فيها بما يدفع المضار ويحقق المصالح.
فلما احتل العثمانيون مصر ألغوا هذا النظام وفرضوا مذهبهم الحنفي على مصر التي يمثل الأحناف فيها أقلية بين المسلمين مقابل أكثرية شافعية في القاهرة والدلتا وشمال الصعيد وأخرى مالكية في الإسكندرية وجنوب الصعيد.
وجعلوا على رأس القضاء قاضيا حنفيا تركيا لقبه قاضي عسكر أفندي، يبعثه الباب العالي، فأصبح القضاء في مصر بيد غريب في المذهب واللغة والعادات عن مذهب ولغة أهل البلد وعاداتهم، وبعد أن كان القضاة في مصر يمثلون - في أغلب الأحوال وليس كلها - رادعا للسلطان عن الظلم وصوتا للرعية في بلاط السلطان صاروا غرباء تبعثهم السلطة
لتنفيذ وشرعنة سياساتها الجائرة، فضلا عن تهافت هؤلاء القضاة ونوابهم على الرشوة والتربح..
بيع الوظائف ونظام الالتزام الجائر
ومن فواحش الإدارة العثمانية لمصر؛ تسلل نظام بيع الوظائف لحيثيات التعيين فيها، فالجمارك مثلا كانت تخضع لمزاد يرفع فيه المزايدون وعودهم للسلطة بإثراء خزينتها، فكان المزاد يرسو على صاحب العرض الأفضل، فهكذا كانت تدار جمارك الموانئ الرئيسية كالإسكندرية والسويس ودمياط.
أما الفساد الأعم فكان نظام الالتزام
والالتزام نظام يقوم على أن يتقدم بعض الأعيان للسلطة بوعد أن يدخل إلى خزينتها مبلغا معينا من المال بشكل دوري، فإذا تولاه منحت أرضه إعفاء من الضرائب تحت مسمى الوسية، مقابل توليه جباية الضرائب من الفلاحين وتسليحه بالسلطات اللازمة لذلك لإلزام الفلاح بدفع ضرائبه، فكان الملتزم يبالغ في الضرائب ليرسل المبلغ المتفق عليه للسلطة بينما يثرى هو بالباقي الذي تغض تلك السلطة بصرها عنه كمقابل لكونه عصاها الضاربة.
إضافة لستخيره الفلاحين حتى يخدموا مجانا في أرض وسيته، وما يتلقاه عنوة من ضيافة وعطايا من الفلاحين خلال مروره بأراضيهم، وكان يرافقه رجال غلاظ يعاقبون المتأخر عن دفع ضريبته بالضرب المبرح تأديبا له وردعا لجيرانه.
فكانت النتيجة أن لجاء كثير من المزارعين للفرار من الريف إلى القاهرة التي كانت آنذاك تعاني التمدد العشوائي أو ما يوصف في لغة عصرنا بظاهرة العشوائيات، فكان هذا النظام مصيبة على الأرض التي فقدت الفلاح والمدينة التي عانت العشوائية والقبح.
استغلال الكوارث ومضاعفة أثر الأزمة بدلا من إدارتها
كان المتولي لولاية مصر يدرك أن فترة ولايته غالبا لن تطول، وأنه غالبا لن يكون له صوت مقابل أصوات الجند وبكوات المماليك..فكان يتعامل مع مدة خدمته باعتبارها وسيلة للإثراء ولو بشكل غير مشروع.
ومن الوسائل الشيطانية التي تفتقت عنها أذهان بعض الولاة استغلال الكوارث. وكانت الكارثة الأعظم أثرا هي الطاعون الذي كان يداهم مصر من وقت لآخر فيفني الآلاف إلى حد وصف القاهرة في بعض أيام الأوبئة بأنها لا تنقطع عنها الجنازات ولا يتوقف فيها صوت الصراخ والعويل. وفي أيام السلطنة المملوكية كانت هذه الكارثة تمثل كابوسا إداريا وحسابيا لرجال القضاء ودواوين المواريث..
أما في العصر العثماني، فقد كان بعض الولاة يستغلون المصيبة فيأمرون بعدم حصر وتدوين تركات المتوفين، ليضعوا أيديهم عليها عوضا عن الورثة أو عن الدولة لو لم يكن للمتوفى أي وارث.
أما عند تعرض البلاد لضائقة مالية سواء لسوء إدارتها أو لربط عملتها - وبالتالي قيمة تلك العملة- بالعملة العثمانية، فكان بعضهم يلجأ لغش العملة بإنقاص الذهب منها واستبداله ببعض المعادن الرخيصة مما يؤدي لنقص قيمتها الشرائية وبالتالي لمزيد من الفقر عند العوام والكساد عند التجار.
صار هذا نمطا مألوفا عند ولاة المحتل العثماني لمصر، والمطالع للكتب التي تناولت تلك الفترة ككتاب الدكتور صلاح هريدي "دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر "يصاب بالفزع من مدى اعتياد هذه الممارسة..
فأين سلطان اسطنبول من هذا؟ السلطان يغض البصر ما دام يحصل على خزانته الإرسالية لينفق على ملذاته وقصوره وحاشيته وحريمه!.
الذين يصفون الحكم العثماني لمصر بالفتح يسوقون حجة للغزو العثماني كما لو أنه قد أنقذ البلاد من الاحتلال الأجنبي، مع أن العثماني قد مارس نفس ما كان المحتل يمارسه من استعباد وإفقار وإفساد.
ورغم ذلك يصرون على وصف الوجود العثماني بالفتح، ولكأن الفعل يصنف بناء على هوية فاعله وليس بذاته.
ثمة مثل شعبي مصري يقول "من لا يرى من وراء الغربال فهو أعمى"، كما أن حكيما يؤكد أن "الحق لا يعرف بالرجال"، ولكن أذناب العثمانيين الجدد قرروا أن يعرفوا الحق بمن يتعصبون لهم من الرجال، فعميت أبصارهم حتى عن تلك الحقيقة التي لا يحول بينها وبين البصر الصحيح سوى الغربال.