وليس لنا، في حال شئنا استكشاف مفهومٍ جسيم الشأن كالعدالة، إلّا أن نستجير بلسان البدايات. وعندما تنحت اليونانية القديمة اسماً لهذه العنقاء، فإنها لا تجد سوى "oson" للتدليل على المفهوم.

ولو استنطقنا لغة بدْئية أخرى، نصّبها هيرودوت أرومة لعبت دوراً بطوليّاً في التأثير على اليونانيين، كالليبية القديمة، فإن الكلمة تتحفنا بذخيرة ماكرة في دلالة تقول حرفيّاً "القسمة". وهو المعنى الذي استمرّ سارياً في لسان أحفاد قدماء الليبيين الذين ورثوا ذخائر هذه السلالة العريقة كما هو الحال مع طوارق الصحراء الكبرى.

ولكن المفاجأة في أننا نكتشف أن لغة تنتمي إلى لسان التكوين أيضاً كما العربية، إنما تعتمد هذه الكلمة نفسها للتعبير عن العدالة كقسمة، في كلمة "وزن" التي هي ليست سوى oson اليونانية، و oson الليبية القديمة، التي ما تزال تحيا في لسان الطوارق إلى اليوم بذات الصيغة الحرفية.

لقد وجدتُ نفسي مضطرّاً لاستنزال حكم "المكر" في دلالة هذه الكلمة للتعبير عن ذلك الدهاء الذي كان رأس مال هذه اللغة البدئية في بداية عهدها بواقعٍ بكر، ولكنه عصيّ، كالوجود.

ففي الواقع الدنيوي اليومي ابتدع الإنسان قياساً أطلق عليه اسم "الميزان" يحتكم إليه للفصل في شأن محاصصة تخضع لناموس التساوي. ذلك أن العلّة هنا هي إشكالية هذا المبدأ الملتبس في العملية القياسية، الكامن في: التساوي. فالمساواة، في أيّة قسمة، تجربة، في نشأتها، لا تخلو من جدل، لأن القياس فيها دوماً تقريبيّ، بل افتراضي، كما الحال مع اقتسام الذبيحة مثالاً.

فمهما اجتهد الدُّهاة في تسوية الغنيمة بين الأطراف عمليّاً، تبقي القسمة موضوع شكّ، حتى المرحلة التي اهتدى فيها الإنسان إلى اختراع الميزان، كأداة قياس جديرة بنزع فتيل الخلاف، وقطع دابر الشكوك التي كادت تتحول طبيعة في علاقة الطرف الأضعف بالطرف الأقوى، لأن هذا الأخير كان، بحكم القوة، هو الأوفر حظّاً في الإستيلاء على النصيب الأكبر من الغنيمة في ظل غياب وحدة القياس.

من هذه التجربة انبثقت الحاجة لوجود قياس أعظم شأناً، يعتمد التساوي في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، لا فيما يتعلّق بحياة الإنسان الحرفية وحدها، ولكن في كل ما له صلة بحياة الإنسان الرمزية، بوصفه شريكاً في غنيمة من جنسٍ آخر، أعظم شأناً، وهي: الوجود! شراكة تحتّم نيل النصيب المستحقّ من هذه الهبة التي إذا كنّا نتساوى في امتلاكها كمجّان، فليس لأحد الحقّ في أن يحجب عن أحدٍ آخر الحق في امتلاك الحرية التي ستمكّنه من أن يفعل بنصيبه من غنيمة الوجود ما شاء له أن يفعل، ما دمنا نعترف به كشريك في صفقة الوجود.

فالنصيب هنا يقتضيه ناموس الشراكة، وهو القسمة الخاضعة لحكم "الميزان" خضوعاً صارماً. ولهذه العلّة ورثنا عن الأسلاف التغنّي بما نسميه في لغتنا الدنيوية: النصيب. النصيب بمفهومه الغيبيّ الملحق دوماً برديفٍ هو: القسمة، كلما شئنا ان نستجدي الأقدار حصّتنا من الهبة الوجودية فنقول: "الدنيا قسمة ونصيب"، كأننا نشكو حرماننا من هذه الحصة المستحقّة بموجب الميلاد، لأنها ليست سوى شهادة ميلاد.

وكي نؤكّد على هذه الأحقيّة في علاقاتنا العمومية، نحتكم إلى الحرف في المعادلة عندما ننصّب الميزان قاضياً ناطقاً بكلمة العدالة، تلك العنقاء العصية التي غدت في علاقاتنا الشائكة هاجساً نستدعيه في صلواتنا كمعبود، ولكنه يتملّص، ويتفلّت، في كل مرة، ويرفض أن يعترف لنا بالنصيب، المستوجب بالقسمة كدين، بسبب الطبيعة الغيبية لجلالة العدالة، بعد أن أعجزتنا في شأنها الحيلة، بعد أن اكتشفنا أن البليّة إنما تكمن في الشراكة.

فالشريك دوماً خسّيس. خساسة يفرضها منطق الصفقة. وعندما نعترف بالوجود كصفقة شراكة، فإن كل الأطراف فيه تنقلب محفل خصوم يحترف اللؤم، ولا يعترف بغير التنافس ديناً. ولهذا السبب أطلقت لغة بدئية كالسومرية على الصفقة التجارية اسم "تامكارّا" الذي يعني في الأصل: "المكيدة"، كما يجري في لسان الطوارق إلى اليوم.

من هذا الاسم انبثق مفهوم التاجر، المبثوث في "مكر" التي تعني في لغة البدايات "اللّص"، كما تجري في لسان ورثة منطق التكوين الطوارق اليوم. وهو المعتمد في العربية كـ"مكر" الرديف للخبث، كما يرد في اللغة السنسكريتية بالحرف نفسه و بالمفهوم نفسه. وهو ما يعني أن كل ألسنة العالم القديم أجمعت على حقيقة الصفقة التجارية كعمل شرّير. وهو لهذا السبب يعادي ناموس القسمة بطبيعته. يعادي ناموس العدالة، لا في حرف العلاقة الدنيوية وحسب، ولكن في مجال العلاقة الوجودية أيضاً، سيّما إذا آمنّا بهذا الوجود كصفقة شراكة بين الإنسان وأخيه الإنسان، لا تختلف عن شراكة الصفقات التجارية إلا في الحرف.

ذلك أن مبدأ التساوي المعتمد في كل قسمة، أي أن ما نسمّيه عدالة، إنما هو السليل الشرعي للحرية. والحرية في مسيرة الصفقة الوجودية، دوماً ضحيّة، مثلها في ذلك مثل مفعول المساواة في قرينتها الصفقة التجارية؛ ولهذا السبب هي "تامكارّا"، أي مكيدة، في مفهوم الطبيعة البشرية، ولا ترياق أرضيّ يُجدي في مداواتها، لأنها في جوهر الإنسان طبيعة. ولهذا السبب لا نحتكم في شأنها إلا لتلك اللقية التي استودعتها فينا الغيوب لتكون المرجع الوحيد المخوّل بتحقيق أحجية كالعدالة ألا وهي: الضمير!

هذا يعني أن القسمة التي ننشدها، المسمّاة بلغتنا عدالة ذات طبيعة غيبية لا تختلف عن طبيعة القسمة الإلهية التي نتغنّى بها كنصيب مستحقّ بالولادة.

فليس من باب المصادفة أن يكون الشِّرك، كخطيئة خطايا، مستعاراً من الشراكة. الشراكة سواء أكانت في صفقة نفعية كالتجارة، أم كانت في صفقة مجازية كالاشتراك في الوجود. والشِّرْك هو إنكارٌ من حيث المبدأ. الشِّرك هو إصرارٌ على الصلاة في محراب النفع، ورفض للاعتراف بحقّ الشريك في نيل حصته من عائد الصفقة وهو: الربح. وعدم الاعتراف هذا ما هو إلاّ احتراف للهيمنة، ورفضٌ صريح لناموس القسمة، التي نسمّيها بلسان الشعر نصيباً، ونعتمدها بلغة الحرف كعدالة. فالظمأ إلى النفع المسمّى في معاجمنا جشعاً، هو ما يجعل القبول بالمناصفة، أي العدالة في القسمة، حلماً مستحيلاً. وهو القدَر نفسه الذي يسري في دم المعادلة في شقّها الأسمى كشراكة إنسان في حضرة حضوره في واقع إنسانٍ يحسبه أخاً، ولكنه يخفي عدوّاً.

فالمعادلة تبدأ في بُعد الحرف. في اللجوء إلى الوزن، لغاية قسمة عادلة تساوي بين الأطراف، للحصول على نصيب، على حصّة. حصّة مستحقّة. مستحقّة بحكم الحضور قيد الوجود. الوجود كغنيمة. غنيمة لا فضل لنا فيها، ولكنها صارت حقاً مكتسباً بمشيئة الواقع، فلا تقتصر على حرف الواقع، ولكنها تعبر لتنال ما وراء الحرف الذي يتباهى به الواقع، ويلوّح به كحجّة. تعبر إلى كلمة الواقع. أو حُكمُنا في حقّ واقعٍ، الخبز فيه لا يُحيى، بل يُميت، ما لم يقبل بحقنا في ممارسة حُكمِنا عليه، لأن هذا الحكم وحده ترجمان سلطتنا. وسلطتنا هذه، هي الضمان الأخير الذي يكفل فوزنا بالنصيب المستحقّ، كي نتنازل فنقبل بالصفقة القاضية بإحلال عدالة في القسمة هو (oson)، لأننا بهذا فقط نهنئ بالاً، ونقنع أنفسنا بأننا حققنا البرهان الدال على حضورنا في هذا الوجود.*

* هامش: ليس عسيراً أن نكتشف أن مصطلح "أوزون" المستخدم في معجم عالم اليوم، للتدليل على الغلاف الجوي، الفاصل بين المجال الأرضي، ومتاهة الفضاء الأعلى، هو اشتقاقٌ من مشروع القسمة، في مفهومها البدئي، ترجمةً لتوقٍ محموم في سبيل توطيد أركان كيان العدالة، العدالة في بُعدها الفلكي، علّ استحضار سلطان المجهول الفضائي يشفع لنجدة المعادلة في مأزقها الأبدي، فيعين على نقل المدلول من موقعه في الواقع الحرفيّ، ذي الطبع الحسّي، إلى رحاب المفهوم القدسيّ، الضامن وحده لإحلال سِلمٍ مأمول، لا وجود بغيابه للعلاقة، بهويتها كحجر حكمة، في بُنية اجتماعٍ هو شراكة الإنسان في رحاب حضرة أخيه الإنسان.