"ضاق رعايا المماليك بحكامهم، فاستغاثوا بالعثمانيين وتطلعوا للسلطان العثماني أن يتقدم فيخلصهم مما هم فيه". "رحب أهل دولة المماليك بالغازي العثماني واستقبلوه بالفرحة والابتهاج". "تنازل الخليفة العباسي عن الخلافة للسلطان سليم الأول، فأصبح سلاطين آل عثمان خلفاءً للمسلمين، وأصبحت دولة العثمانيين دولة الخلافة الإسلامية".
هذه بعض أكاذيب العثمانيين-القدامى والجدد- التي يبررون بها عدوان الدولة العثمانية، وبغيها على دولة مسلمة هي جارتها المملوكية، واجتياحها أراضيها وإطلاقها السيف والنار بين أهلها.
صاغوا الكذبة ورددوها تطبيقًا لمبدأ قاله غوبلز -وزير دعاية هتلر- بعد الاجتياح العثماني بقرون، يقول: "إنك إذا أردت أن يصدق الناس كذبة، فلتكن كبيرة إلى حد أن أحدًا لا يتوقع أن تكذب في أمر كبير إلى هذا الحد، وبالغ في ترديدها حتى تصبح بالنسبة للناس حقيقة لا جدال فيها".
ولكن التاريخ لا يجامل ولا يرحم من يحاول تزويره، فثمة مقولة ترد على المأثور عن غوبلز سالف الذكر هي: "إنك تستطيع أن تكذب على بعض الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت".
لماذا غزا العثمانيون دولة المماليك؟
حتى نهاية عهد الحاكم العثماني محمد الثاني-الفاتح- كانت العلاقات العثمانية المملوكية طيبة وقوية، إلى حد أن القاهرة زُيِنَت لخبر استيلاء العثمانيين على القسطنطينية، واحتفلت بعد ذلك بسنوات مع قرينتها الشامية دمشق، بتكذيب شائعة عن وفاة محمد الفاتح بالطاعون، وكانت المراسلات بين العاهلين المملوكي والعثماني كلها مودة، والعلاقات تصل أحيانًا إلى حد التحالف في بعض الأمور الأمنية، كإحباط المؤامرات الأوروبية ضد الشرق الإسلامي، وحتى عندما طلب الفاتح من الخليفة العباسي بالقاهرة، أن يمنحه لقب السلطنة- الذي يعد أكبر لقب حاكم للمسلمين بعد الخليفة- لم تهتز تلك الروابط الطيبة، رغم ارتياب المماليك مما قد يكون وراء هذا الطلب.
ولكن بعد وفاة الفاتح، نشب صراع بين ابنيه بايزيد وجِم على العرش، وانتصر الأول وتربع على كرسي الحكم تحت اسم بايزيد الثاني، بينما فر جِم إلى القاهرة لاجئًا للسلطان المملوكي قايتباي، الذي كان معروفًا بأنه لا يرد مستجيراً به.
حاول بايزيد أن يقنع قايتباي بتسليمه أخاه المارق، إلا أن السلطان رفض الطلب، أسوة برفضه طلب جِم أن يمده المماليك بقوة تعينه على انتزاع العرش من أخيه، فما كان من جِم إلا أن فر من مصر إلى أوروبا، حيث عاش فترة ثم مات بشكل تشوبه شبهة جنائية، ولكن بايزيد لم يغفر للمماليك حمايتهم لأخيه من بطشه.
كانت الحدود العثمانية المملوكية تقع جنوب الأناضول، وعلى تلك الحدود كانت تقوم إمارات تركمانية يخضع بعضها للعثمانيين، بينما يدين البعض الآخر بالولاء للمماليك، فدفع بايزيد تلك الإمارات للتحرش بالحدود المملوكية، بل ومهاجمة الديار الحلبية التي تعد مفتاح الشام.
جاء رد القاهرة سريعًا قويًا، فتصدت لتلك التحرشات وقمعت أصحابها فدخلت القوات العثمانية اللعبة بشكل مباشر وصريح، فأرسل قايتباي ثلاث حملات قوية بقيادة قائده القدير الأتابك أزبك، الذي رد العثمانيين على أعقابهم، بل وتوغل في بلادهم مما اضطرهم للصلح بوساطة حاكم تونس، الذي أقنع الطرفين بأنه لا يجوز أن يحارب المسلم أخاه المسلم.. فعادت العلاقات تتحسن إلى حد تخطيط القسطنطينية والقاهرة لتنفيذ حملة مشتركة لإنقاذ مسلمي الأندلس، إلا أن صراع أبناء بايزيد على خلافة أبيهم وانقلاب سليم على أبيه السلطان بايزيد الثاني حال دون ذلك... وعندما توفي بايزيد في عهد السلطان قنصوة الغوري أقام هذا الأخير صلاة الغائب على روحه في مساجد القاهرة وأظهر الحزن والحداد.
لم يكن سليم ليقبل بوجود جار قوي مثل المماليك ملاصق لحدوده، فأخضع الإمارات التركمانية وقتل جده لأمه أمير إمارة "ذي القدر" الحدودية وبدأ التحرك لغزو الشام.
كانت الذريعة المعلنة لسليم هي اتهامه السلطان الغوري بالخيانة والتحالف مع الدولة الصفوية الشيعية الناشئة في فارس والعراق، ولكن حقيقة الأمر أن السلطان المملوكي كان عدوًا للصفويين إلا أنه فضَّل الوقوف على الحياد في الصراع العثماني الصفوي، فاستغل سليم الأول هذا التوجه واستصدر الفتاوى من شيوخ دولته بخروج المماليك عن الملة الإسلامية وأن جهادهم صار واجبًا كجهاد الكفار!
أكذوبة استغاثة الرعايا بالغازي العثماني
التاريخ يؤكد حقيقة أن الأوضاع في دولة المماليك منذ وفاة السلطان قايتباي حتى سقوط الدولة ذاتها، كانت في تردٍ مستمر وحال بالغ السوء على مختلف المستويات، لكن الوقائع تنفي أكذوبة الاستغاثة سالفة الذكر.
الواقعة الحقيقية هي أن السلطان الغوري إذ بلغته التحركات العدوانية لسليم العثماني، قام بإرسال حملة إلى الديار الحلبية، فلما بلغت الحملة حلب لم يكن قادتها وجندها على قدر المسؤولية، فعاثوا فسادًا في المدينة وروعوا أهلها وانتهكوا حرماتهم، فضج هؤلاء بالدعاء على الغوري واقترح بعض فقهائهم مراسلة العثمانيين، إلا أن زملاءه سعوا لرده عن ذلك، رافضين تلك الخيانة.
والحقيقة أن حلب آنذاك كانت تحت حكم الأمير المملوكي "خاير بك" الذي كان بالفعل قد تورط في خيانة التخابر مع العثمانيين والتودد لسليم بالتلميح لأنه رهن أوامره، فمن السهل إذن أن نستنتج من الذي كان وراء اقتراح الفقيه المذكور مراسلة العثمانيين وطلب غزوهم حلب.
وبالفعل تأكدت خيانة خاير بك، عندما كان يقود ميسرة الجيش المملوكي في معركة مرج دابق بين الجيشان المملوكي والعثماني، والتي كانت الغلبة في قسمها الأول للمماليك على أعدائهم، إلى حد تفكير سليم في الانسحاب وطلب الصلح، فقد سارع خاير بالانسحاب بميسرته وأشاع بين جنود المماليك من فئة "القرانصة" (ممتلكات السلاطين السابقين) أن الغوري يلقي بهم في أتون المعركة بينما يجنب فئة "الجلبان"(مماليك الغوري)ويلاتها، فحرضهم بدورهم على الانسحاب، وعندما استعدت قوات الاحتياط لإنقاذ الموقف المملوكي الذي أصبح حرجًا أشاع الخائن بينهم أن "سلطانكم قد مات فانسحبوا"... فوقعت الهزيمة ولقي الغوري مصرعه.
وعندما حاول فلول الجيش المملوكي الانسحاب لحلب، اُغلِقَت أبوابها في وجوههم، فانسحبوا إلى دمشق، بينما دخل سليم حلب وفي صحبته خاير بك الذي تزيا بزي العثمانيين وحلق لحيته أسوة بتقاليد أمرائهم.
يقول العثمانيون إن تلك الواقعة دليل على ترحيب الأهالي بالغازي العثماني، ولكن لو فكرنا في الأمر لطرحنا سؤالًا: هل كان غلق وفتح أبواب المدن بأيدي الأهالي أم السلطة؟ وما دور خاير في إغلاق الأبواب في وجوه رفاقه السابقين ثم فتحها أمام الغازي؟ من السهل جدًا إدراك دور خاير في ذلك، وهو الذي كان سليم يداعبه بعد ذلك بمناداته "خاين بك"، خاصة أن قلعة حلب كانت بأيدي الجند المماليك الذين لم يتعرضوا لأذى الأهالي، الذين يشيع العثمانيون تمردهم على السلطة المملوكية.
وعندما اجتاح العثمانيون دمشق، حاولت حاميتها بالاشتراك مع الأهالي، أن تقاوم الغزاة الذين دهموها وأطلقوا سيوفهم في أهلها، وأوقعوا بهم وبأمراء دمشق المماليك مذابح مروعة، حتى طلبت المدينة الأمان مقابل استسلامها.
وعند بلوغ العثمانيين غزة-حدود الديار المصرية والديار الشامية- حاول أهلها مقاومة المحتل لكنهم تعرضوا لمذبحة رهيبة، سقط فيها الآلاف شهداء نضالهم ضد الغزاة.
أما القاهرة التي كان أهلها يهتفون "يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي" فقد نالت نصيب الأسد من الذبح والتقتيل والترويع، فكان سليم قبل معركة الريدانية، التي سبق سقوط القاهرة يقول في مجلسه: "غدًا أدخل القاهرة فأحرق بيوتها وألعب في أهلها بالسيف"، وقد كان... فعند دخول الجند العثماني العاصمة المملوكية اندفعوا في شوارعها ينهبون البيوت، بحجة التفتيش عن المماليك الذين كانوا عند أسرهم يُعدَمون بالجملة، وصالوا وجالوا في أهلها بسيوفهم ورصاصهم، وبلغوا حد اختطاف الغلمان المُرد والفسق بهم، فأحدثوا فيها مقتلة عظيمة.. كل هذا انتقامًا من اشتراك أهل القاهرة في القتال ضد العثمانيين في معركة الريدانية.
وعندما كر السلطان طومان باي-الذي تولى الحكم بعد مقتل الغوري- على العثمانيين ونجح في تخليص القاهرة جزئيًا من احتلالهم، هلل له المصريون وشاركوا في خطف وقتل الجند العثماني وتقديم رؤوسهم لطومان باي، وأصبح مسجد "شيخو" في شارع الصليبة مركزا للمقاومة، إلا أن العثمانيين كرّوا على المصريين واحتل الأنكشارية مآذن مسجد المؤيد وراحوا يقنصون المصريين ببنادقهم، حتى نجح بعض المماليك في الصعود لهم وقتلهم.. وألقى سليم بثقل جيشه في المعركة حتى نجح في طرد طومان باي وأعوانه وإفناء المقاومين، وأطلق جنده يحرقون مسجد شيخو ويداهمون الأزهر ومسجد السيدة نفيسة والمشاهد والمساجد الأخرى، ويذبحون من يلجأ لها حاسبًا أن المسجد يعصمه من سيوف العثماني.. واستشهد في تلك الواقعة عشرة آلاف نفس.. وأُعدِم الذين استسلموا من أمراء المماليك وألقيت جثثهم في النيل أو للكلاب الضارية. وبأوامر من سليم، انطلق رجاله يخلعون أعمدة ورخام قصور قلعة الجبل-مقر الحكم المملوكي- وجمعوا الصُناع والبنائين وأرباب الحرف وأساطين المهن والفنون، تمهيدًا لنقلهم مع نهيبة سليم إلى اسطنبول لبناء مدينة ملكية تليق بـ"سلطان البرين وخاقان البحرين".
وعندما وقع طومان باي في أسر سليم الأول، كان هذا الأخير يفكر في العفو عن مقاومته له، إلا أن شائعة انتشرت بين الأهالي، أن طومان باي لم يؤسر وأنه عما قريب يخلصهم من المحتل، فغضب سليم وأعدم السلطان المملوكي الشهيد شنقًا على باب زويلة، فلما نُفِذَ الحُكم صرخ الناس صرخة عظيمة واغتموا له..
فهل كل ما سبق يقول من بعيد أو من قريب، إن الرعايا كانوا يستغيثون بالغزاة العثمانيين؟!
أكذوبة التنازل عن الخلافة
تقول الأكذوبة العثمانية إن سليم الأول حين أسر الخليفة العباسي المتوكل في مرج دابق، اصطحبه إلى دمشق، حيث تنازل له الخليفة عن الخلافة لتنتقل من بني العباس إلى بني عثمان.
والواقع التاريخي يفضح هذا الكذب لأسباب عدة..
أولًا: لم يذكر أي من الكُتّاب المعاصرين للحدث- من أي من الجانبين- هذه الواقعة، التي لم تكن ليُغفَل عن ذكرها، فانتقال الخلافة من عربي قرشي هاشمي إلى تركي أعجمي، ليس بالحدث الهين خاصة أن من أهم شروط الخلافة قرشية النسب، عملًا بالحديث "الأئمة من قريش".
ثانيًا: في مراسلة سليم الأول لابنه سليمان يبشره بانتصاره، لم يرد أي ذكر للتنازل عن الخلافة، وفي مراسلة سليم لطومان باي يأمره بالتسليم له-وهي رسالة كانت بعد مغادرة الجيش العثماني لدمشق متوجها لمصر- ذكر سليم أنه قد حاز حق حكم سلطنة المماليك بأمر من الخليفة العباسي، مما يعني استمرار اعتراف السلطان العثماني وقتها بخلافة المتوكل، وهي واقعة تقع زمنيًا بعد الواقعة المزعومة لتنازل المتوكل عن الخلافة.
ثالثًا: عملية التنازل من خليفة لآخر كانت تحكمها مراسم صارمة، وهي جمع الفقهاء في اجتماع رسمي، وكتابة محضر بالواقعة يوقع عليها الطرفان-المتنازِل والمتنازَل له- والشهود وشيوخ الإسلام.. فأين ذلك المحضر في وثائق العثمانيين لو كانوا صادقين؟ وأين ذكره في كتب المؤرخين؟
رابعًا: الدعاء لسليم العثماني على منابر القاهرة-بعد احتلالها- كانت صيغته هي: "وانصر اللهم سلطان البرين والبحرين وخاقان العراقين وكاسر الجيشين السلطان سليم شاه"، فلم ترد به صفة الخلافة، والدعاء للخليفة أو الحاكم كانت من المراسم الرسمية الصارمة التي تعبر عن ولاء الدولة له.. ودخول سليم القاهرة كان تاليًا لواقعة التنازل المزعومة في دمشق.
أخيرًا: أي من المؤرخين العثمانيين-وعلى رأسهم المؤرخان أوليا جلبي وإبراهيم أفندي بجوي، كانوا عند ذكر السلطان العثماني يذكرونه بلقب السلطنة من دون أي ذكر للخلافة..
فما مصدر تلك الأكذوبة إذن؟
بدأت الكذبة في القرن الثامن عشر خلال مفاوضات السلطان العثماني عبدالحميد الأول مع قيصر روسيا لإبرام معاهدة كوتشك قينارجي، حيث أراد القيصر أن يفرض حمايته على معتنقي المذهب المسيحي الروم أرثوذكسي في الدولة العثمانية، فأراد السلطان بالمثل أن يفرض حمايته على مسلمي شبه جزيرة القرم الروسية، فادعى لنفسه صفة الخلافة، ونشط رجال البلاط وكُتّاب السلطان في اختلاق قصة التنازل سالفة الذكر والترويج لها... فضلًا عمّا كان بعض المتملقين للسلاطين يمارسونه أحيانًا من مناداة السلطان في كتاباتهم بـ"خليفة المسلمين" تقربًا منه وتزلفًا إليه.. أما الخلافة رسميًا فلم تقم إلا عام 1876 من خلال دستور السلطان عبدالحميد الثاني الذي نص على أن "السلطان خليفة المسلمين واسنطبول دار الخلافة".. أي أن "الخلافة" العثمانية لم تدم سوى 48 عامًا منذ الدستور المذكور حتى إسقاط أتاتورك لها سنة 1924.
ختاما
إذا ضعف العقل استسلم للخرافة، والجهل هو أسوأ مظاهر ضعف العقل، والخرافة سلاح الكاذب يضرب بها عقل الجاهل فيحوله إلى مطية لأكاذيبه وتدليسه.
هذا ما كان من شأن العثمانيين قديمًا ومواليهم المحدثين بين حشود كبيرة من المستسلمين لراحة الجهل ودعة التراخي عن البحث والاطلاع على المعلومة قبل تصديقها، فقد أُلقِيَت لتلك الحشود هذه الكذبة فتلقفوها فرحين وركنوا لها فأقاموها صنمًا يتمسحون به ويتعصبون ضد من يحاول المساس به حتى وإن تسلح بالعلم والعقل والمنطق.
ولكن-كما أسفلت القول- التاريخ لا يرحم من يعابثه، والكذبة تبقى بيتًا من زور أساسه هواء.. لا بد له من يوم ينهار فيه على رؤوس من شيدوه!